صحيفة الإندبندت البريطانية
إن الأزمة بين كل من فرنسا والمملكة المتحدة بشأن حقوق وآليات الصيد الجديدة بالقرب من جزيرة جيرسي والتي تبلورت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليست بالجديدة، حيث تفتح مشاهد السفن البريطانية والفرنسية في مياه بحر المانش نوافذ الذاكرة على تاريخ من النزاعات بين كلا البلدين، والتي “شكّلت فيما بعد القارة الأوروبية وربما تاريخ العالم”، على حد وصف المؤرخ البريطاني إيريك هوبزباوم، وما تزال التوترات قائمة بين الدولتين بشأن السيادة على الجزيرة التي تعد واحدة من تركات ذلك الصراع الذي امتد لقرون.
الخلاف على جزيرة جيرسي التي لا تتجاوز مساحتها الـ 120 كيلومتراً مربعاً متوقع الحدوث فالجزيرة تاريخياً كانت جزءاً من “دوقية النورماندي” الواقعة غرب فرنسا حتى عام 1204 واحتلتها بريطانيا فيما بعد، لكنها لم تتمكن من الحفاظ عليها طويلاً وخسرتها خلال حروب أوائل القرن الثالث عشر مع النورمانديين، لكن ذلك الحدث كان استثنائياً بالنسبة للجزيرة التي نالت استقلالها بعد أن منحت حكماً ذاتياً ما تزال تتمتع به منذ ذلك الحين، لكنها ظلت مرتبطة رمزياً بالتاج البريطاني الذي يتولى حماية الجزيرة، ما يطرح التساؤل حول أهمية الجزيرة التي أشعلت كل هذا الجدل بشأنها؟
ترتبط أهمية الجزيرة التاريخية بموقعها الإستراتيجي، فالجزيرة الواقعة جنوب البر الرئيسي لبريطانيا تعد أكبر جزر القنال الإنكليزي وهي أقرب إلى فرنسا من بريطانيا، إذ تقع على بعد 22 كم من الساحل الفرنسي و137 كم جنوب الساحل الإنكليزي، عاصمتها مدينة ساينت هيلر.
تشكل الجزيرة بوابة القنال الإنكليزي بالنسبة لبريطانيا وكان لاحتلالها عام 1940 من ألمانيا أهمية سياسية خاصة بعد الحصار البحري الشهير الذي فرض على بريطانيا طوال الحرب العالمية الثانية والذي فصلها تقريباً عن العالم الأوروبي.
وخلال الحربين العالميتين الشهيرتين، التي دخلتها كل من بريطانيا وفرنسا كطرف واحد في مواجهة ألمانيا، شهد التاريخ حروباً بين البلدين في القرون العشرة الماضية، بمعدل حرب مُدمرة كل 5 عقود، ما حولهما إلى أكثر بلدان العالم حروباً فيما بينها على الإطلاق.
يشير المعهد الأوروبي للدراسات الأمنية بأن ثلاثة حروب مشتركة بين البلدين كانت استثنائية التأثير، بطريقة جرّت معها كل الدول الأوربية، وأحياناً العالم، فالدولتان خلال تلك الحروب الثلاثة كانتا إمبراطوريتين عالميتين، وكان الصراع بينهما يمثل مواجهة بين الأقطاب العالمية، ولعل حرب المئة عام بين البلدين، التي جرت منذ أواسط القرن الرابع إلى أوسط القرن الخامس كانت أطول تلك الحروب وأكثر تأثيراً.
في أواخر القرن الثامن عشر اجتاحت السيطرة الاستعمارية البريطانية مناطق واسعة من العالم، ما كاد أن يحولها إلى قوة قادرة على الهيمنة من جديد على كامل أوروبا، بما في ذلك فرنسا نفسها.
وبسبب رغبة بريطانيا بالاستيلاء على العرش في فرنسا، اندلعت سلسلة حروب مدمرة بين البلدين خلال تلك الفترة، انتهت بالهزيمة البريطانية وخروج قواتها من مناطق البر الفرنسية الحالية.
يشير باحثون سياسيون أن الحرب بين البلدين بدأت عام 1778، عبر مناوشات عسكرية على جزيرة جيرسي نفسها، عندما شارفت البحرية البريطانية على احتلال البر الفرنسي لولا المعاهدة التي وقعتها كل من فرنسا والمملكة المتحدة.
وكانت الحرب الطويلة التي اندلعت بين البلدين عقب انتصار الثورة الفرنسية الكُبرى 1789، هي آخر تلك الحروب الشهيرة والمدمرة بينهما، فقد قادت بريطانيا مجموعة كبيرة من الدول والقوى السياسية الأوروبية المناهضة للأفكار الثورية الفرنسية، خصوصاً بعد تولي نابليون بونابرت زعامة فرنسا، حتى أن المؤرخين المعاصرين يسمونها بالحروب النابليونية.
تصاعدت التوترات آخر مرة بين فرنسا وبريطانيا في القناة الإنكليزية خلال “حرب الإسكالوب” في (آب) 2018، عندما ألقيت الحجارة والقنابل الدخانية وغيرها من القذائف المشابهة على مراكب الصيد الإنكليزية والاسكتلندية من قوارب فرنسية، وذلك في خليج السين الكائن قبالة سواحل نورماندي.
ووصفت “الجمعية الاسكتلندية” لمنتجي الأسماك البيضاء تلك المناوشات آنذاك بأنها كانت “قرصنة واضحة” بحجة أن المراكب البريطانية كانت تعمل بصورة قانونية في مناطق الصيد عندما تعرضت لهجمات الفرنسيين.
وفي الخلاف الذي جرى مؤخراً بين البلدين، برر الفرنسيون نشر القوارب على أن البريطانيين قد انجرفوا لمسافة 12 ميلاً داخل منطقة الحظر المحددة بموجب سياسة المصايد الأوروبية المشتركة، وهو اتهام رفضه الجانب الآخر بقوة.
والواقع أن ذلك الخلاف نجم عن حقيقة أن فرنسا لا تسمح بصيد الإسكالوب التجاري إلا بين الأول من (تشرين الأول) و15 (أيار)، بذريعة تخفيف وطأة الصيد على تجمعات المحار، غير أن الصيادين البريطانيين لم يكونوا ملزمين بالتقيد بتلك القاعدة، واتهموا بالتالي بـ”نهب” الإمدادات الحيوية من منتج مهم للتصدير في المنطقة، من خلال متابعة نشاطاتهم خارج النافذة الموسمية المتاحة للصيادين الفرنسيين كي يبحثوا عن الإسكالوب.
هذا عن أهميتها التاريخية التي ارتبطت بشكل أو بآخر بموقعها الإستراتيجي حيث تعتبر الجزيرة من المناطق الغنية بالمصادر الطبيعية في العالم، يبلغ ناتج الفرد السنوي حسب آخر الإحصائيات الصادرة أكثر من 45 ألف جنيه إسترليني، ويقوم اقتصادها بشكل أساسي على الخدمات المالية كما تعتبر واحدة من أكثر المنتجعات السياحية التي تلقى إقبالاً كبيراً من السائحين سنوياً.