اخترعنا «عيد الحب» واستبدلناه بـ«الفالانتاين»!
مفارقة محزنة تلف الشوارع كل عام في الرابع عشر من شباط، عندما يهرع الناس لشراء الدببة والورود الحمراء بأسعار خيالية تعبيراً عن عشقهم لحبيباتهم، وتبدأ الشوارع وواجهات المحلات بارتداء اللون الأحمر احتفاء بهذه المناسبة الرومنسية التي تسحر قلوب الشباب وتدفعهم مبكراً قبل أشهر للإعداد لها عبر شراء الهدايا وإقامة الحفلات .. يتبادل المحبون وغير المحبين عبارة «هابي فالانتاين» تعبيراً عن المشاركة وتبادل المشاعر الصادقة .. كل ذلك يبدو طبيعياً ويستحق التشجيع، لكنّ المفارقة المحزنة التي أشرنا إليها في العنوان تتساءل لماذا نسي السوريون أنّهم من اخترع عيد الحبّ في الأسطورة الشهيرة لعشتار وحبيبها تموز, وكانوا يحتفلون به كل عام في الحادي عشر من نيسان حيث كانت تعمّ هذه الطقوس مختلف مناطق العالم بعامل التأثير الثقافي الكبير للسوريين عبر بقاع الأرض والبحار؟.
بالتأكيد، لا نتذمر من تمجيد الحبّ والاحتفاء به عبر عيد سنوي تشارك فيه كل شعوب العالم، لكن ألا تبدو المفارقة مؤلمة جداً عندما تتعرض منحوتة الخصب والحب والحرب «عشتار» التي حفرها طلاب كلية الفنون على إحدى الأشجار في دمشق، للتخريب والحرق بذريعة أنها تمثل ثقافة غريبة وخادشة للحياء، في حين يحتفل أولئك أنفسهم بشراء الدببة الحمراء بمئات آلاف الليرات إرضاء لحبيباتهم في عيد «الفالانتاين» الذي إذا قيّمناه حسب المنطق نفسه فسيكون غازياً ومستورداً من الخارج؟.أليس غريباً ألا يعرف الطلبة والفئات الشابة بشكل عام أي معلومات عما تمثله «عشتار» في التراث السوري القديم العائد لآلاف السنين قبل الميلاد، في حين يحتفون بمناسبات مأخوذة من ثقافات أخرى؟.
ربما ينفع أن نذكّر هنا بالمثل القائل «مزمار الحي لا يطرب»، فما يحدث في قصة «عشتار» و«الفالانتاين» لايؤكد أنّ هذا المزمار لا يطرب فقط، بل إنّ معظم الناس لم يسمعوا عزفه وتغريداته بعامل الجهل وعدم المعرفة والاطلاع على الكنوز المحلية التي نمتلكها والتي تم السطو عليها عن عمد أو غير عمد لنعيد استيرادها بحلّة مختلفة وبتوقيع ثقافة مغايرة، ونبقى في الوقت نفسه نحارب ثقافة «عشتار» رغم أنها من صنع الأجداد, وتشكل ثقافتنا الحقيقية في فترات ما قبل الميلاد؟.
الأمر ذاته يحدث مع عيد السنة السورية التي يحتفي بها السوريون تاريخياً في الأول من نيسان، ومازال هذا العيد مستمراً في بعض المناطق بتسميات متعددة، وكلها مرتبطة بانبعاث الربيع وعودة “تموز” حبيب «عشتار» من العالم السفلي حيث تعود الأرض إلى اخضرارها احتفاء بانتصار الحب!.
يتحدث الباحثون التاريخيون عن سطو تعرضت له الثقافة والميثولوجيا السورية، فأسطورة «عشتار» ذاتها أخذها الإغريق في حكاية «أفروديت وأدونيس»، وبعامل الدعاية والتعمية على تراثنا الغني، صارت «أفروديت» أشهر من «عشتار» للأسف، وصار معظم الناس يحتفون بعيد القديس «فالانتاين» ولا يعرفون شيئاً عن جدتهم «عشتار» التي يعود الفضل لها في إحياء هذا العيد، بل إن بعضهم عمد إلى محاربتها عبر تدمير منحوتاتها وحرقها ظناً منهم أنهم يحمون التراث والعادات!.
القضية ربما تتعلق بالجانب التربوي والمناهج المدرسية قبل كل شيء، ففي مختلف الصفوف لا نعثر على كمّ كافٍ من الاعتناء في تدريس التراث والتاريخ السوري بأسلوب علمي مستند إلى المكتشفات الأثرية الحديثة التي تؤكد صحة ما نذهب إليه هنا، ويكفي هنا أن نشير إلى كتاب «تاريخ سورية» بأجزائه الأربعة للباحث أسد الأشقر، وأيضاً كتب الباحث فراس السواح الكثيرة والمتعددة التي تناولت التراث والأسطورة، عدا عن ترجمات طه باقر ونائل حنون لملحمة جلجامش وشرائع حمورابي عن اللغات القديمة الأم!.
للأسف، اليوم تُنتهك حرمة «عشتار» وحبيبها تموز في مسقط رأسيهما حيث نمت قصتهما, واشتهرت عالمياً واحتفى بها الناس في الأعياد, وعبر تبادل الهدايا والتمنيات، ويحلّ مكان ذلك أعياد بتسميات أخرى سطت عليها الثقافات الإغريقية والأوروبية ثم قمنا باستيرادها والاحتفاء بها معتقدين أنها التعبير الوحيد عن المشاعر الإنسانية!. ليس لأن “مزمار الحي لا يطرب أحداً” اليوم، بل لأن هذا المزمار بُحَّ صوته وهو يصدح وحيداً، ولا صوت لمن يصرخ وينادي لأن ثقافة الـ«دي جيه» غطت على كل شيء!.