المدنُ.. سريرُ اللغة وخيلُ الغواية وعفاريت الرجوع!

للمدن فتنتُها وأسرارُها، جمالُها وعشوائيّتُها، غُنجُها ورصانتها، رقّتُها وقسوتها، أبوابُها التي تقول للكون أهلاً بك، وكبرياؤها الذي تصدُّ به عداوةَ الكارهين.
لدمشق، وبيروت، والقاهرة، وبغداد، والقدس، والكويت، وتونس، وصنعاء.. وكل العواصم العربية حكاياتُها السحرية وأعاجيبها، تاريخُها المحضون في عيون أبنائها، وحاضرها المعجون بدموع أحزانهم وأفراحهم.
للمدن أجسادٌ تتراقص على لهيب مفاتِنها، وأرواحٌ تتأسّى على جمر الفقدان.. للمدن موسيقاها التي تُرقّصُ خيلَ الغواية وعفاريت الشهوات.
لذلك يُجوِّدُ الشاعرُ أدونيس لغتَه، وحين يكتب عن دمشق قصيدتَه «في حُضنِ أبجديةٍ ثانية»، فيقول: «كيف يتصالحُ ياسمينُ دمشق مع جسدٍ لا تنبتُ فيه غير شقائق النعمان/ قاسيونُ أيها السائرُ واقفاً هل تعرف أن الفصولَ أعطتْ لغيري كلَّ شيء وخصّتني بخطواتها؟/ دمشقُ ظِلُّكِ لابسٌ قامتي، وأبوابُك مُحيطةٌ بي. هَبطَ سِرُّكِ إليّ: لا يسكُن الفَرَحُ إلا الثنيةَ والطيّةَ والزاوية».
لطالما شغلتني المدنُ لأنها بيوتُ الذكريات ولأنّ بيوتنا فيها مدنٌ كاملةٌ من آلاف المنمنمات. لذلك طلبت إلى بعض الكتّاب والشعراء أن يخصّوا «تشرين» بأشياء من ذكرياتهم عن أي مدينةٍ يعشقونها، فأجابني الشاعر والروائي العراقي أسعد الجبوري المقيم في الدنمارك كما لو أنه يَهدِلُ شوقَه لدمشق:
«لا قيلولةَ للذكرياتِ في العُزلة … وما من نسيانٍ للتصاوير في الصندوق الأسود للرأس. منذ تكوّنِ الخليقةِ والبشرُ يزدحمون بالذكريات مثلما تزدحم هي بهم في شيفرتها المُعقدّة (…) وعلى مدار أكثر من عقد من الزمن على إقامتي في مدينة دمشق، امتلأتْ ذاكرتي بأحداث عظيمة وصور نادرة لمدينة لا تزال تعدّ من أقدم مدن العامرة على الأرض.. فدمشق بطبقاتها وطوابقها، مدينةٌ مشحونةٌ بالحب والتاريخ والعطر والجمال .. مدينةٌ أيقونةٌ تقابلُ الشمسَ، ليمتزجَ شعاعُ الاثنتين، فتفيضان على وجه قاسيون الجبل الذي بُنيَ مِنْ تأوهات العاشقين، وصليل سيوف الفرسان، ورائحةِ زهورٍ مِنْ اختصاص دمشق وحدها، أمُّ الفلِّ والياسمين والنساء المتوردات بخدودِ النار».
ميلودراماتيك الذكريات!
الجبوري يعرف أنه «ليس بالأمر السهل أو المجّاني، أن يؤسسَ المرءُ خزائن تليق بذكرياته»، وأنّ «لكلِّ مدينةٍ ذاكرةٌ تقابلُ ذاكرة المقيم في منازلها.. وعندما تندمجُ الذاكرتان في شيفرة واحدة سرعان ما تقومان بالإنتاج المشترك لـ«ميلودراماتيك الذكريات»، كلُّ واحد يأخذ من الآخر ما يحتاجه، فيضيف إليه أو يعيد إنتاجه، ليصبح فقرة من ذلك العمود الفقري حامل الجسد والأرض وموارد الجمال».
فيما كاتب السيناريو أسامة إبراهيم/ صاحبُ مسلسل «رياح الخماسين» منطلقاً من مبدأٍ فلسفي روحانيّ «إنّ الإنسان من ترابٍ وإلى التراب يعود.. فعلاقة الإنسان مع الأرض علاقة الجزء مع الكل، كلٍّ يأخذ من الآخر ويعطيه»، يقول لنا:
«المدينةُ مصنعٌ كبيرٌ متعدد الورش لتشكيل الذاكرة الفردية والجمعية للإنسان بكل ألوانها وأشكالها الحسّية والروحية. المدنُ بيوت الذكريات وصانِعتُها، وخيرُ دليلٍ على ذلك ما تضجُّ به مكتباتنا من إبداعات لمبدعين رحلوا عن أوطانهم ومدنهم وكانت ذاكرتُهم حاملاً لتلك الأوطان، والمدن راسخة في وجدانهم أينما رحلوا، بما في ذلك تلك التي حطّوا فيها رحالهم أو مرّوا عليها، حجزت لنفسها مكاناً حميماً في ذاكرتهم ووجدانهم».
هكذا إذاً تصبحُ المدنُ ليس مطرحاً فقط لتخمير عجينة الذكريات وإنضاجها، بل هي اختبارٌ لصبر الإنسان ونضجه.. هي ورشةٌ تنصهر فيها منمنمات العيش اليومي بحكايتنا المسبقة عنها فكأننا نخلق منها مدناً جديدة هي الوجه الآخر لأقمارها.
تحدّثنا الصحفية السورية وئام يوسف، المقيمة في القاهرة من عشر سنوات، كيف أنها عندما كانت تشاهد القاهرة في الأفلام والأغاني المصرية خلال طفولتها وزمن المراهقة لم يخطر في بالها أنها ستقيم فيها يوماً ما:
«كنتُ مفتونةً بفوازير شيريهان وأغاني عبد الوهاب وأفلام عادل إمام وعاطف الطيب، وجميعها يحكي وجوهاً لـ«المحروسة» مغايرةً لما هي حالها اليوم. فجمالُ القاهرة أكثر اتساعاً مما هو على الشاشة.. جمالٌ يتجاوز الأهرامات وأبو الهول والنيل. القاهرةُ لها وجوهٌ أخرى لا يراها إلا ساكِنُها، هذه المدينة المتعبة كما دمشق التي قدِمتُ منها، كلاهما يتكئ على تاريخ ضارب الجذور، وربما في ذلك بعض التعلّل، كلاهما أيضاً حاضنٌ لثقافات وأجناس عديدة تنصهر في المكان وتحيله لتشكيل غنيٍّ بديع».
منمنماتُ العبث اليومي!
«الذكرياتُ في المدن،
باصاتٌ لنقل الركّاب إلى المهاجع
والتخوت والحانات.
هي أيضاً قِيمٌ لزمنٍ الأرواح والأزاهير
والكتابة والغناء وتطريز العاشقين خياطةً
بالدمع والنار..

دمشقُ التفاحةُ المضادّة للجاذبية».. هكذا يُلقي علينا الجبوري شِعرَه عن دمشق، كلماتِه التي يصوغُها بـ«الطاقة البديلة للّغة الأمّ» كما يسمّيها، أو بشيءٍ من سورياليّة اللغة، ويُكمل: «ما يمكنني ذكره الآن، أنّ دمشق لا تسمح للغريب بأن يكون جائعاً أو عارياً أو غريباً.. هي المدينة المأوى الآمن لملايين اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين والعرب والكثير من الأجانب.. مدينة بعصب فولاذي مضادّ للعنصرية والطائفية.. ربما لأن الله طهّر قلبها بنبع فيجة بردى مضافاً إليه حِبرُ الشعراء ودموع القديسين والمتصوفة ممن آمنوا بأن أبواب الشام مفتوحة للشمس في النهار وللقمر في الليل، ولا إغلاق لها إلا بوجوه البرابرة وقطاع الرؤوس».
لكن «في التحولات الكبيرة والسريعة في المدن جراء الحروب أو الأزمات أو الكوارث تكونُ الغلبة للذاكرة الجمعية، حيث تذوب الذاكرة الفردية وتتلاشى ضمن الذاكرة الجمعية لتشابه المصائر والمخاطر والظروف الحياتية اليومية ووحدة الهموم والهواجس والمعاناة» حسبِ السيناريست أسامة إبراهيم الذي يتابع حديثه بنكهة السخرية المُرّة: «هذا ما حصل في دمشق بشكل خاص، وعلى كافة الجغرافيا السورية بشكل عام جرّاء الأزمة ومعاناة أهلها من وحشية الإرهاب وضيق الحال الاقتصادي. وربما أكثر ما يشكل وحدة في الذاكرة الجمعية هو خضوعُ أدقِّ تفاصيلِ الناسِ المعيشية لضابطِ إيقاعِ «زمبلك» ما يُسمّى البطاقة الذكية مثلاً!».
وهكذا تصبح جملة «نحنُ حصيلة تجارب خضناها ومدن عشنا فيها وناس التقينا بهم» (العبارة التي قالها زميلٌ صحفيّ للصحفية وئام يوسف) عبارةً تستعيرُها ليقينها بأن جزءاً كبيراً من خبرتها الحياتية والمهنية نهلته من القاهرة، وتسرُّ لنا كمَنْ يبوحُ بوجدانياته: «خلال عقد من الزمن علّمتني القاهرة أن أبقى يقظة وقويةً لئلا تأخذني بصخبها وزحمتها.. أنْ أدركَ فرادتها وأتكيف مع قسوتها، فهي كما يقول الكاتب المصري جمال حمدان «أمُّ المدن التي تُخبّئ تحت كل حجر فيها حكايةً أو خبراً»، ولعل هذا أحد الأسباب التي تجعلها نابضة رغم التعب بل مشعة أيضاً. القاهرة في الواقع غير التي على الشاشة، لكنها تبقى مختلفة، بدليل أن من يزورها سيحاول مرة أخرى، وإنْ لم يحدث ذلك سيبقى أثرها في وجدانه طالما هو حي».
«الخطيئة العظمى أن تفقدَ الذكرياتُ أقدامها» يختم الجبوري حكايته لنا. وفيما أتركُ الصديقةَ وئام يوسف مشغولةً بعيشها في قلب القاهرة الخديويّة الممتدة بين جبل المقطم ونهر النيل، وممتنّةً لـ«تفاصيلها التي تفيض بالحياة والصخب، ووجوهٍ مثقلةٍ وضاحكة تعكسُ روحَ الفكاهة المصرية التي تتسلح بها كي تقدِرَ على الاستمرار»، وكما أدَعُ السيناريست إبراهيم ممغنطاً إلى دمشق كـ«جغرافيا مأهولةٍ تملك – كما الأرض – قوةَ ثقالةٍ مركزية جاذبةٍ تفرض – بكل تناقضاتها – شروطَها على ساكنيها وتقودهم للتعايش والتكيف بقدر ما يستطيعون»… أتركهم جميعاً واقعين في أفخاخ الذاكرة وشِباك الذكريات، وأغوصُ أنا في «دمشقي» الخاصة:
أصيرُ حبّةَ بركة على منقوشة جبنة، ذرّةَ مِلحٍ على رغيف تنّور في القيمريّة، وَبَرَاً عسليَّ اللونِ على قِطّةٍ من قِطط قصر العظم، عشبةً سِحريةً في سوق العطارين، حكايةُ في مقهى النوفرة، شَجَناً في ناي يعزِفُ مقامَ البيات قربَ مقامِ الشيخ محي الدين بن عربي، غيماً يرتحلُ عِشقاً ويهدأ حنيناً، وردةً جوريّةً في حضنِ الأحبّة، كتفاً للأصدقاء الحزانى، حبلَ غسيلٍ لأمّي، فكرةً مجنونةً من أفكار أبي، وضحكةَ فرحٍ على وجوه إخوتي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
سورية تشارك في اجتماعات الدورة الـ 28 للجمعية العمومية للمنظمة العربية للطيران المدني في الرباط المنجد يبحث مع فارغاس يوسا علاقات التعاون في العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك السفير علي أحمد: «لجنة التحقيق المعنية بسورية» منفصلة عن الواقع.. ومزاعم الحرص على حقوق الإنسان لا يمكن أن تتسق مع استمرار الاستغلال الفاضح لقضايا نبيلة لتهديد مصائر شعوب بأكملها قانون إعلام جديد يلبي طموحات الإعلاميين في سورية... وزير الإعلام يعلن من اللاذقية أفقاً رحباً للشراكات البناءة السفير آلا: تعزيز الدعم الدولي لبرامج التعافي المبكر وإعادة الإعمار في سورية لتأمين عودة النازحين الخامنئي يدعو إلى المشاركة الواسعة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية الصين تجدد مطالبة الولايات المتحدة بوقف نهب موارد سورية وإنهاء وجودها العسكري فيها «ناتو» والعناوين المستترة في قمته المقبلة.. ظل ترامب يُخيم.. غزة ولبنان يتقدمان.. وأوكرانيا حاضر غائب الصحة العالمية: تأثير سلبي يشمل فرص التعليم والعمل..العزلة الاجتماعية تزيد خطر الوفاة 32% "التجارة الداخلية" تشكّل  لجنة لإعادة دراسة تكاليف المواد والسلع الأساسية على أرض الواقع