فن العيش الحكيم .. فن الانتحار المجنون!

التداوي بالفلسفة، قد يكون طريقاً إلى الخلاص! تلك ليست مزحةً أو علاجاً بأسلوب الـ«Placebo» أو الوهم الذي يُستخدم في حالات الأمراض المستعصية .. بل هو بانوراما من التعامل مع الحياة طرحها شوبنهور «1788 – 1860» في كتاب «فن العيش الحكيم»، ويمكن أن تكون دواءً ناجعاً للخلاص من الاكتئاب الشديد «ثنائي القطب» الذي يعصف بالمبدعين، هذا المرض لا يتفاقم إلا باليأس والإحباط من المحيط الذي يصفه شوبنهور بالمعيق للعملية الإبداعية, وسالب حرية الأشخاص التائقين إلى إضافة شيء جديد ومختلف للإرث العالمي في الفنون .. بل إن شوبنهور ذهب أبعد من ذلك عندما قال: إن العزلة هي الميزان الذي تقاس به جودة الأشخاص من عدمها، فبقدر ميل الشخص إليها وعشقه لها، يكون أهلاً لأخذ مكانه في مجمع الراقين وصفوة المنتجين!. لكن من ناحية ثانية ألا يتحول الانطواء إلى مشكلة يسببها التداعي في الأفكار والمشاعر بعيداً عن محيط سطحيّ يمكن أن يشغل المرء بالتفاصيل التافهة, وينقذه من الغرق الكلي في محيط الأسئلة التي لا أجوبة لها؟, الأسئلة تلحّ بقوة عند استعراض حالات الانتحار عند المبدعين، وتدفع إلى البحث عن حلول قد تكون فلسفية كما يطرحها شوبنهور، مادامت النجاة من العزلة والكآبة المعرفية وربما اليأس، تعد أمراً صعباً خاصة بالنسبة لتلك الفئة التي تعرف تماماً أن المعرفة بقدر ما هي قوة للشخصية، فهي في الوقت نفسه ألم ومعاناة ومكابدة توقع صاحبها في الانشقاق تماماً عن المحيط ليكون الخيار حينها إما انفصالاً نهائياً بالموت الطوعي، وإما إبداعياً عبر نتاجات لا تنجو هي الأخرى من اتهامات المحيط النقدي والاجتماعي بسبب نفورها وخروجها عن النمطية والمألوف!.
تجربة الشاعر خليل حاوي «1919- 1982» الذي انتحر ببندقية صيد على شرفته احتجاجاً على اجتياح القوات الإسرائيلية واحتلالها لبيروت، تؤكد أن النجاة من المحيط المتهالك والمخزي أمر صعب بل مستحيل، ليس لأن المنتج الإبداعي في مصباته النهائية يعني الخير والجمال الجمعي فقط، بل لأن هذا المحيط سيقتحم عزلتك حتى لو قررت الانطواء بعيداً عنه، فهو أنت وأنت هو, ولا يمكن الفصل بينكما تماماً مثلما يطمح شوبنهور.. كذلك الأمر بالنسبة لتجربة الفنان لؤي كيالي الذي أحرق لوحات معرضه كاملةً بعدما تعرض للانتقاد وعدم التقدير ومن ثم انتحر على سريره مختاراً التلاشي والاشتعال لأن المحيط الذي نتحدث عنه أصبح أكبر من قدرته على الاحتمال!.
لايبدو الإقدام على الانتحار غريباً عن واقع المشتغلين في حقول الفنون، ورغم أن الشاعر الفرنسي بودلير قال يوماً: سوف أقتل نفسي غير آسف على الحياة .. سوف أنتحر لأنني لم أعد قادراً على الحياة، إلا أنه لم يُقدم على هذه الخطوة مباشرة، فأغرق نفسه في الكحول والمخدرات لكي ينسى معاناته مع أمه التي تخلت عنه، ليصاب بعدها بجلطة دماغية تسببت بشلله ومن ثم وفاته .. المشكلة هنا تسبّب بها المحيط أو عدم القدرة على إيجاد توازن بين ما يجري عملياً في الواقع وما يطمح لأن يكون هو الواقع بالفعل!.
بسبب المحيط نفسه، ستضطر الكاتبة الإنكليزية فيرجينيا وولف إلى ملء جيوب معطفها بالحجارة ثم ستلقي نفسها في نهر الأوز لتنتهي غرقاً لأن نوبات الجنون التي كانت تنتابها فاقت الاحتمال.. ولن يختلف الأمر عند الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث التي اختارت طريقة كارثية عبر وضع رأسها في الفرن والبقاء في حالة استنشاق للغاز حتى انتهاء حياتها التي تصفها بأنها مليئة بالخذلان بسبب جحود المحيط!.
أرنست همنغواي اختار إطلاق رصاصة في الرأس.. والشاعرة آن ساكستون لبست معطفاً من الفراء ثم دخلت كراج السيارات وأغلقت الباب جيداً وظلت تستنشق غاز الكربون حتى أنهت جميع الحقائق المرة التي لاحقتها في الحياة.. الشاعر الياباني يوكيو مشيميا ذهب في المشهد التراجيدي أكثر فاختار الانتحار بطريقة الساموراي (هارا كيري) أي بحدّ السيف، وكما وصف أحد علماء النفس بنية الانتحار عند «مشيميا» بأنها عالية جداً إلى درجة أن الموت كان أقرب إلى الشبق بالنسبة إليه!.
لا يبدو تفسير نيتشه صحيحاً عندما قال: إن حياة الإنسان مرتبطة بمدى قدرته على العطاء، وإنه متى ما شعر بعجزه عن تقديم المزيد أو العلوّ أكثر فإنه يشعر بحاجة شديدة إلى الموت، فالمنتج الإبداعي المميز والمبدع كان سبباً في انتحار لؤي كيالي الذي لم يقدّر المحيط مكانته إلا بعد انتحاره بسنوات عندما عاد هذا المحيط للاحتفاء بتجربته ووصلت لوحاته إلى أسعار كبيرة, ومن الطرائف في هذا الموضوع أن نيتشه نفسه الذي تحدث عن «موت الجبناء» الذي لا يختاره المرء بنفسه، وحبّذ عليه الموت الذي يختاره المرء ويحوله إلى عيد لأنه لم يُحرم حق اختيار طريقة وزمان هذا الموت، لم يتمكن من تنفيذ تلك الرغبة بسبب انتهاء حياته في أحد المصحات العقلية بعد معاناة مع الجنون!.

الأمثلة التي يمكن تناولها في الموت والانتحار لدى المبدعين كثيرة، فمرة يكون الموت شغفاً ومرات أخرى يرتبط بالذهان والاكتئاب, وعدم تحمّل الانهدامات الكبيرة التي يتسبب بها المحيط، وسواء كان «الاضطراب ثنائي القطب» قدراً على المبدعين، أم كان حالة مكتسبة بسبب المعاناة، فإن المحيط نفسه يقف وراء ذلك، ومن يدري ربما تكون القضية التي سميت «شغفاً بالموت» تصيب الإنسان، لم تكن إلا نتيجة موت الشغف نفسه!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار