الأديب محمد ياسين صبيح يفتحُ (نافذة بلا جدار) بمئة قصة وقصة
هاجس
يجتاحهُ القلق.. جسدهُ يملأ أرض غرفته الوحيدة..
توارى الأصدقاء والغربان..
وحدهُ المفتاح في يديه؛
لم يجد له باباً..
هكذا ببضعِ كلماتٍ، لا تتجاوز العشرين مفردة؛ قدّم الأديب محمد ياسين صبيح عالماً كاملاً للشخصية التي جعلها محور أحداث الحكاية.. أقول (الحكاية) بكلِّ ما يوحي به مصطلحُ الحكاية من تفاصيل، وأحداث، وأخبار.. قدّم من خلالها الكاتبُ تراجيديا كاملة، وهي ميزة توفرها دائماً القصةُ القصيرةُ جداً، وذلك لمن امتلك أدواتها، هذا النوع الإبداعي الذي أمسى فيه الدكتور صبيح (مُعلماً)، ومَعلماً في مشهده الثقافي، وهو (الناشطُ) بالاشتغال على تطويره، ومحاولة (الاستقلال) بهذا الشكل الكتابي، كنوعٍ مستقل بذاته، رغم تقاطعاته الكثيرة، وتشابه الملامح بينه، وبين الكثير من أنواع الإبداع الأخرى، ولاسيما تلك التي تنتمي لـ(قُصارى القول)، والذي ما أصبحَ يُطلق عليه (الأدب الوجيز)..
وبالعودة للنص السابق، وهو ما يبتدئ به صبيح مجموعته القصصية (نافذة بلا جدار) الصادرة عن دار بعل في دمشق.. فقد استثمر القاص الكثير من التقنيات التي يُعتمد عليها في النص القصير، لتجعله يبقى في كنف التكثيف، ومن ثم تصبحُ الأخيرة غاية بلاغية وجمالية، من هنا كانت من أبرز تلك التقنيات التي أجاد الكاتبُ اللعب عليها، والتي فرضها التكثيف؛ هي (الدلالة)، بكل ما يعني ذلك من إيحاء ومخزون من الرموز، وهنا يكتفي الكاتب بالإشارة من دون المُشار إليه، بالدلالة من دون الدال عليه، وهنا كانت لعبته الجمالية، وإذا ما رجعنا لنص (هاجس)، وتحديداً إلى شخصية القصة، وهي بالمناسبة شخصية وحيدة في النص، وحيدة بكل ما تعنيه الوحدة من عزلة وفقد وخذلان، شخصية تُشبه كثيراً، بل هي المُعادل لشخصية (المونودراما) في المسرح، والحقيقة أن أكثر الأجناس الأدبية التي تُماثل مسرح المونودراما، هي الشخصية في القصة القصيرة جداً، بل إن الشخصية الأخيرة قد تفوقها تجريداً ووحدة، لدرجة أن لا اسم لها، وهذه من ملامح الشخصية في هذا الشكل الإبداعي، وهي أن الشخصية تأتي بلا اسم، وفي تقديري هنا تكمن قوتها الدلالية، لأنها تتقاطع بتراجيدياتها، وحتى في ملهاتها معنا الـ(نحن) كلنا، هي (الأنوات) التي تجمعها في (أناها)، أو هي (الأنا) المتشظية في عشرات ومئات (الأنوات)..
وهي من هنا؛ هي الشخصية المرتبكة، والمستوحشة، التي تجد صعوبة في التكيّف مع مجتمع مُفعم بالعُقد والتعقيد، إذ يبدأ صبيح قصته بـ(يجتاحه القلق)، فمنذ التركيب الأول في القصة، قدّم الكاتبُ مشهداً لشخصية يجتاحها القلق، ثم ليُكمل (التصوير) (جسده يملأ أرض غرفته الوحيدة)، وهو إذاً إضافة لقلقه؛ يعيش في الحيز الضيق من المكان، الذي هو غرفة وحيدة بالكاد تتسع لجسده الطريح على أرضها، ولأنه على أرض الغرفة طريح تنهشه كلاب القلق، إذاً هو مُتعب، وربما مريض، وحزين، وخائف.. أما لماذا هو كذلك، فليس ثمة أنيس له.. ببساطة غادر الجميع، كلُّ الأصدقاء، بمعنى أن (الرجل) يُعاني من الفقد، والوحدة القاتلة، وليزيد في سوداوية الحالة، يعطف الكاتب على رحيل الأصدقاء، رحيل الغربان أيضاً، تلك الكائنات التي عُرف عنها استيطانها للأماكن المهجورة، فحتى هذه الطيور هجرت هي الأخرى المكان، في دلالة الفراغ الخانق، والوحشة وصلت إلى أقصى عزلتها، وهو ما يختم به النص بـ(المفتاح) الذي فقدَ غاية وجوده، بل لا معنى لوجوده، طالما لا معنى لوجود باب في هذا المكان المُقفر الذي هجرته حتى الغربان..
كل هذه المشهدية، يُصورها صبيح كفيلمٍ صامت، لا تحتاج لأي شرح، وكلُّ ذلك بما لا يتجاوز العشرين كلمة، ولكنها قدمت بما يفوق السرديات الروائية التي على شاكلة الأجزاء..
والحقيقة؛ إن من أهم ملامح نص القصة القصيرة جداً؛ (المشهدية)، أو التصوير بالكلمات، والحقيقة التالية؛ هي إنّ كاتب القصة القصيرة جداً، هو أقرب لفنانٍ تشكيلي، بل قل لفنان تصويرٍ ضوئي، وصبيح هنا يُقدّم مشهديات عارمة بالتراجيديا، ورغم أنه لم يوضح سبب وحدة الشخصية، ولم نعرف لها اسماً، غير أن التراكيب التي رتبها الكاتب، جاءت تماماً كما يُرتب المخرج السينمائي مشاهده، لتُحيط بكامل الحالة من دون أن تقول الكثير، ولكن لتوحي بمئات الدلالات، ومئات القراءات التأويلية..
ناي
كانَ صوتُ الرّاعي، يطربُ الأشجارَ والحقولَ،
والقطيعُ يستسلمُ لجوعه المُعتاد..
لكنّ نايهُ بقي صامتاً وحزيناً..
يحنُّ إلى ساقيةِ القصب..
في النص القصة السابق، لم يبتعد الأديب صبيح عن الأدوات البلاغية التي استخدمها، في نص قصته الذي افتتحنا به هذه القراءة لمجموعة (نافذة بلا جدار)، غير أن الشخصية في النص الأول، والتي لم يعطها الكاتب أي صفة، سوى ما تُعانيه، أي سلط الأحداث على حالتها الجوانية وحسب، غير أنه في النص الذي بين أيدينا الآن، يُحدد أكثر من صفة للشخصية، غير تقديمها بما تُعانيه، وبما يعتمل بداخلها، هنا حدد الكاتب، مهنة الشخصية، وماذا كان يعمل في السابق، وهو هنا (الرّاعي)، غير أنه استخدم لوصف ما يجري معه الفعل الماضي (كان صوت الراعي، يُطرب الأشجار، والحقول، والقطيع يستسلم لجوعه المُعتاد).. إذاً ثمة سياقٍ اعتيادي لحياة هذا الراعي، لكن هناك عطبٌ ما، خللٌ ما، قطع تلك الحياة، وذلك العالم أصبح اليوم من الماضي.. هنا يُضيف الكاتب شخصية أخرى، لتؤكد ما حلّ بالشخصية الأولى، أو بذلك العالم – عالم الراعي والناية والقطيع والسهول.. وهي هنا شخصية كاملة الأوصاف في ذهنية المُتلقي، وهي ورغم أنها تُصنف على أنها من الجمادات (الناي)، غير أن الكاتب يُضفي عليها بفيض من المشاعر الإنسانية، وهي مشاعر دافئة ومؤلمة أيضاً، هي مشاعر (الحنين) التي تلبست الناي، والتي يُفهم من هذه المشاعر؛ أنّ الناي فقد صاحبه، من دون أن يقول النص ذلك، أو يشرحه، وإنما فُهم الأمر من العزلة التي يُعانيها الناي، وافتقادها للراعي الذي كان ينفخُ فيها الموسيقا التي تطرب حتى الأشجار.. والذي هنا يُقدمه الكاتب – الناي- إنه باقٍ صامتٌ وحزين، وهو بغياب رفقة صاحبه، يقتله الحنين للعودة إلى موطنه إلى (ساقية القصب) كأي مُغترب كان يعمل في بلاد الغربة وقد وصل سن التقاعد، ومن أراد أن يعود إلى مسقط رأسه، فطالما فقد صوته هنا، على الأقل يشتعلُ خضرةً هناك في مكان ولادته على ضفة الساقية مع عائلته، بدل أن يشتعل يباساً..
نص مدهش، للكاتب صبيح، في الاشتغال والتنويع في استخدام أدواته في القص من إخفاء، وإضمار، وإيحاء، ذلك ما يوفر له تقديم نصٍ مخفيٍّ، بين التراكيب وعلامات الترقيم، ذلك النص الذي غالباً ما يكون غاية المبدع، أو أهم غاياته الجمالية، إنه (نص البياض)، الذي على المتلقي أن يقوم هو بتأليفه، أو على الأقل تأويله، حيث يُمسي القارئ هنا مؤلفاً مُشاركاً في النص، وهذه ميزة أخرى لنص القصة القصيرة جداً، وهنا ليس بالضرورة أن يكون القارئ – مؤلفاً ندّاً للكاتب، أبداً، الندّية ليست في حسبان أحد هنا، وإنما الغاية توفر ذلك القارئ الذي قد يُقدّم نصه الموازي على البياض المُتاح، بطريقة أقرب إلى (الإتمام) لاكتمال اللوحة النصيّة، وكلما اختلف القراء – المؤلفون، زاد ذلك في إغناء لوحة النص، والإثراء في غنائيتها اللونية..
عودة
عادَ الغريبُ يبحثُ عن قلبٍ زرعهُ بينَ أوراق المواسم..
بحثَ بين الأصابع، كشفَ غطاءَ التراب عن كنزٍ لم يضعْهُ..
تذكّرَ أنّ المفتاح الذي في جيبه:
لا يصلحُ لأبوابه..
نص جميل حقاً، ومُدهش هو الآخر؛ يُقدمه صبيح من خلال لعباته الفنية، وغوايته في السرد القصصي، وبتقديري؛ إنّ أجمل النصوص تلك التي تقول (حكمتها) إيحاءً، وليس كمثل، أو قولٍ مأثور، والحقيقة، إن نص الدكتور صبيح، حرر (المأثورات) من قيدها المُعتاد، فالغريب الذي عاد بعد عتيٍّ من الزمان ليبحث عن كنوزه التي كان قد خبأها قبل الرحيل، نسيّ أن الأقفال أمست صدئة، وليس من مفتاح مناسبٍ لها اليوم، فكيف بمفتاح أكله صدأ الغربة هو الآخر، هكذا تفقد المفاتيح غايتها، وتبقى الأقفال على حالها..
ومُفردة (المفتاح)، هي من المُفردات الأثيرة لنفس القاص الذي يحنّ قاموسه السردي لاحتوائه دائماً، فكثيراً ما تكررت في نص القاص صبيح، وذلك بشواغل مختلفة في كلِّ مرة، المفتاح الذي غالباً ما يُحيلك إلى الأقفال والأبواب.. هنا تصيرُ التراجيديا في ذروتها العاطفية، وقد وصلت مهمات تلك المفاتيح إلى خواتيمها الحزينة، تماماً كموظفٍ عشق مهنته حدّ الثمالة، غير أن قرار (التقاعد) الذي يأتي على حين غرة، سيُعطّلُ كل ذلك الغرام، ووضعه في حالة المُستغنى عن خدماته..
الرّصيف
مشى ليلاً بثيابه الوسخة..
جلسَ على الرّصيفِ الوحيدِ ونام..
في الصّباح عندما كانَ الثلجُ ناصعاً؛
كانت بشرتُه باردةً،
وثيابهُ نظيفة جداً..
ميزة، أو ملمحٌ آخر للدكتور صبيح، يُلبسه لنصه القصصي تماماً كوشاحٍ شفيفٍ لأجساد الصبايا.. إنه وشاح الشعرية، بل قل الشعر الذي يُرخي بمجازاته على (حكائية) القصة، وأحداثها، ويُظللُ بفيئه شخصياتها، الشعرية التي تأخذُ بنص القصة القصيرة جداً إلى تخوم القصيدة، بكل ما تعني القصيدة من حالاتٍ جمالية، ومن هنا كان أن أطلقنا على نص القصة القصيرة جداً، يوم كانت في مرحلتها (التعبوية) خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وخلال مناورات فرسانها ومعاركهم على (شرعية) الاسم؛ كان أن أطلقت عليها: «الأقصودة».. ذلك النحت الذي يجمع بين القصة والقصيدة، لدرجة التماهي بين النوعين، وثمة عشرات النصوص اليوم، التي يُمكن أن نطلق عليها مُصطلح (الأقصودة)، وذلك لأنه بإمكان المُتابع، أن يقرأها حيناً على أنها قصة قصيرة جداً، وطوراً على أنها ومضة شعرية، وفي كل الأحيان هي (أقصودة)..
انتقال
يصلُ إلى الصحراء، يُنزلُ الشاطئُ عن ظهره..
يُرتبهُ في الواحةِ المهجورة.. ثمّ يصنعُ زورقاً من النخلةِ الوحيدة..
وينتظرُ الرّيح..