كلما اتسعت الرؤية
ثمة وجهتان للنظر، وربما للقراءة اليوم لما يُنجز من نصوص سمتها العامة الإيجاز، أو قُصارى القول، الأولى تؤكد أن «الأدب الوجيز»؛ يُشكّل اليوم حركة تجاوزية في الأدب، ومن ثمّ وبكل ما يُميزه من ملامح تُشكّل نوعاً أدبيّاً جديداً، فيما يرفض الاتجاه الثاني المُصطلح برمته، ويراه مُصطلحاً هلامياً غايته «تدمير» الحالات الإجناسية لكثير من النصوص شكلت كل منها، وبما اكتسبته بعد تراكم وبتقنياتٍ خاصة أجناساً أدبية مستقلة قائمة بذاتها.
من جهتنا؛ كانت لدينا وجهة نظر ثالثة، تتفق مع كل طرف بنصف ما يقول، وتختلف معه في النصف الآخر الذي يعدّه مصدر (اختراعه) ويُريد من وراءه براءة اختراع باعتباره مُكتشفاً للغابات العذراء والأراضي البكر بما يظنون أنهم كانوا (الفاتحين) والمُكتشفين الأول.
وأريد أن أسارع إلى القول؛ إن الكثير – إن لم يكن كلّها – من أشكال قُصارى القول، التي حاولت الادعاء بالاستقلال بالنوعية؛ فشلت فيما تصبو إليه فشلاً ذريعاً، وضاعت في متاهة ما يُسمى النوع. فلو (تواضعت) قليلاً، وبقيت (شكلاً في النوع) لربما حققت غايتها الأدبية، وهي اليوم ما أوصل -على سبيل المثال- القصة القصيرة جداً لأن تصل سريعاً إلى مرافئها الأخيرة, على العكس منها تماماً قصيدة النثر التي لم تدّعِ يوماً أنها (استقلت) عن الشعر لتُشكل جنساً ونوعاً أدبيّاً مستقلاً، بل بقيت شكلاً آخر من أشكال القصيدة، وتفرعت عنها أشكالٌ مختلفة أبرزها اليوم ما يُمكن أن نضعه ضمن (إطار) الأدب الوجيز برغم شناعة التأطير.
وجهة نظرنا؛ كان يُمكن لها أن تشكّل «مُصالحة» أدبية بين وجهتي النظر السابقتين، لو تنازل كل طرف عن قليلٍ من «التناحة». وجهة النظر القائلة إنّ (الأدب الوجيز) يُشكل إطاراً رومانسياً لمختلف أنواع الأدب الوجيز، وليس جنساً مستقلاً بذاته، أما لجهة الخشية من التماهي وضياع الأجناس -يا للهول- فلتضِعْ الأجناس مادام الجنس أو الشكل قد وصل في خواتيمه ليكون (مسخاً) وقزماً، ولاسيما أنّ الدعوة إلى الكتابة التي تتجاوز النوع هي دعوة قديمة راجت منذ أزمان بعيدة تحت مُصطلح (الكتابة عبر النوعية).. بمعنى؛ النص الخارج من حظيرة التصنيف النوعي، بل إن أجمل النصوص تلك التي تستعصي على التصنيف والتجنيس.
اكتب نصك وحسب، ودعه يتجاوز كل حدود الجنسيّات، ودعِ الآخرين في متاهة التصنيف ومنح (الهويات) الأدبية، وكذلك جوازات السفر.. أما ما علاقة العنوان بما قدمته؛ ذلك لأن الكثيرين الذين يرددون مقولة شيخنا النُفري: «كلما اتسعت الرؤية؛ ضاقت العبارة» يأخذونها بغير ما كان ذلك الناقد العتيق يُريد، وهو الذي كان يقصد أنه كلما اتسعت رؤية المبدع وجد لها من (الصور) ما يوجزها، ولاسيما أن الصورة سابقة للغة، والمبدع هو مبدع الصورة، والتي من خلالها يتجه بنصه سريعاً وبكل أريحية وليس قسراً أو بـ« لي عنق النص» إلى التكثيف والإيجاز..