عن المعنى.. في قلب الشاعر!!

منذ زمن بعيد جداً، أُبعدَ مُصطلح “الجزالة” عن قاموس النقد الشعري.. (الجزالة) التي كانت يوماً غواية الشعراء، حتى أمست لعبة لغوية بغيضة للكثير من استعراضات الشعراء البائسين، ولعلّ أكثر الأنواع الإبداعية التي ذهبت باتجاه (الجزالة)، ربما أكثر من غيرها.. فنٌ من حسن القراء – إن توفروا في العالم العربي – أنه لم يستمر طويلاً، وهو فن (المقامات).. وكان السؤال دائماً: من قال إن اختيار الكلمات التي تحتاج إلى عشرة قواميس لتفهم معناها يُسمى شعراً؟! والغريب أن تترك نهاية الجملة إلى شيءٍ مبهم لا أحد يستطيع تفسيره، ربما حتى لو دخلت في قلب الشاعر !!
ربما نعجب بنصٍّ “حمّال أوجه”، لأنّ القراءات المتعددة للنص، تزيدُ في غناه، والغنى هنا ليس لأنّ الكاتب تقصّد ذلك، بل غالباً الإبداع هنا، يعود للقارئ، وليس للكاتب، هنا القارئ الذي يأتي برتبة كاتبٍ ثانٍ للنص، وهكذا يتعدد كتّاب النص بتعدد قرائه، ومن ثمّ يبدو بدهيّاً موت النص الذي يحتاج إلى شرح المفردات، والعودة للقاموس لمعرفة تفسير الكلمات الأحفورية الباردة.
صحيحٌ أنّ أيّ نصِّ إبداعي، أو يُصنف على إنه (إبداع) يسقط إذا ما ذهب صوب مناخات المباشرة والتقريرية، غير أنه يسقط أيضاً وبذات “الدوي” إذا ما ذهب صوب فضاءات الاستعراض اللغوي الصرف، ونحى منحى الألغاز واستطاب العيش في “الذهنية”!!
إذاً أين التحدي الذي على النص وصاحبه أن يخوضا فيه؟! إنه ببساطة “تحدي إبداع البساطة”، وتوليد الفن من أبسط الأشكال ألفةً.. ذلك أنه ليس أسهل من إنجاز الأشياء المعقدة، أما البساطة ففيها من الأمور ما يُثير التحدي، وهو ما كثفه قدامى النقاد في مقولة “السهل الممتنع”..
يقول ريلكه: “لا تكتب الشعر إلا عندما تشعر أنك ستموت إذا لم تفعل ذلك”.. وأظن أنّ ما يعنيه الشاعر النمساوي (راينر ماريّا ريلكه)، بداهة الشعر، والنص الذي يأتي بنفسه عفو الخاطر، وليس قسراً، أو “حرفنة” واستعراضاً، وكل الشعر الرائع والخالد جاء بفرط هذه العفوية، تماماً كصرخة أرخميدس عندما اكتشف “دافعته””وجدتها وجدتها”..
العيش في الذهنية والتجريد، ومن ثمّ الإغماض والغموض والتغميض؛ هي إشارات كبيرة على الإفلاس، فلا يهمني اليوم ماذا يُخبئ الشاعرُ من معاني في قلبه، وإنما يهمني ما يسرده ويدونه من معاني تصل إلى قلبي أنا – القارئ، ذلك النص الذي وجدت نفسي من خلاله، وكأنني كاتبه..
إنه زمنُ الشعرِ البسيطِ بامتياز، إنه زمن التغريدات الخاطفة، زمن المقولة الضاحكة.. وأما النصوص التي تحتفظ معانيها في قلب الشاعر فإلى الرفوف والغبار.. وهذه المرة ساستعير ال”هامش” من شاعرنا الرائع نزيه أبو عفش:
“آهٍ.. كم أتمنّى
أن أختمَ سجلَّ هزائمي وكوابيسي؛
بكتابةِ قصيدةٍ عملاقة،
(قصيدة مِن سبعِ كلماتٍ أو أقلّ)
تبدأ بكلمةِ: “أحلم”..
وتنتهي بكلمة: “وردة “.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار