سلوك يعبر عن أفراد يفتقرون إلى الوعي ويعمل على شرعنة العنف والتهور باسم الفرح.. إطلاق العيارات النارية في المناسبات بين طقوس البطولة ومأساة الموت
تشرين – إلهام عثمان:
في مشهد لا يغيب، بل و يتكرر كثيراً، وليس سورية فقط, تتأرجح مشاعر الفرح والحزن بين لحظات معدودة، ليتحول الاحتفال فجأة إلى مأساة بسبب طلقة نارية طائشة، هذه العادة القاتلة، التي باتت جزءاً لا يتجزأ من تقاليدنا، تتسرب إلى مناسباتنا المختلفة، لتخطف أرواح الأبرياء وتترك وراءها جروحاً لا تندمل وسؤالاً ملحاً؛ إلى متى هذا الاستهتار؟
من الهواء إلى الصدور
تحدثنا ع.ط ذات الـ22 عاماً، أنها لم تعد تحضر أي مناسبة زفاف، بسبب ما خلفته حادثة من أثر نفسي مخيف لديها، بسبب فقدانها والدها إثر إصابته بأحد العيارات النارية الطائشة، من المدعوين بهدف مجاملة العروسين، وكان ثمن تلك المجاملة أن تيتمت أسرة بأكملها.
وفي حالة أخرى، يسرد لنا أحد الأشخاص عن حادثة أثناء قيامه بواجب العزاء في قريته، أنه وبينما كان الأخ يحمل نعش أخيه ليودعه في موكب الجنازة، دفن إلى جانبه في اليوم ذاته، وذلك إثر إطلاق الرصاص من قبل أحد المشاركين ، ليتحول بذلك العزاء إلى عزائين.
خبير اجتماعي: إطلاق النار ليس مجرد تعبير عن الفرح بل هو انسياق وراء تقليدٍ مشؤوم يتنكر في قناع الاحتفال
موروثات ثقافية تراكمية
هذه الطقوس ليست مشاهد عابرة، بل هي مرآة تعكس عمق المشكلات التي يعيشها مجتمعنا تحت وطأة وممارسات غير مسؤولة, هذا ما أكده الخبير الاجتماعي د. أحمد ورد خلال حديثه لـ”تشرين”، بأن إطلاق النار في الهواء هو انسياق وراء تقليد مشؤوم يتنكر في قناع الاحتفال, لافتاً إلى أن العجز عن كبح هذه الممارسات, يكشف النقاب عن نقص الوعي وتقاعس وعدم جدية المؤسسات في نشر ثقافة الأمان والمسؤولية الجماعية, ويقول: يجب ألا نقبل ببقاء هذا النزيف المستمر في نسيج مجتمعنا؛ بل يتطلب الأمر تزخيماً للجهود التوعوية وتفعيل القوانين الرادعة للحفاظ على الأرواح وإعادة صياغة مفهوم الفرح الذي لا يكتمل إلا بالأمان والسلامة الجميع.
عادة قاتلة تتوارثها الأجيال
كما بين د. ورد أنه لا يمكن لأي مناسبة، أن تكتمل سواء في الريف أو المدينة, من دون أن يعكر صفوها صوت الرصاص، حيث يعتقد البعض أنه تعبير عن الحماس والشجاعة، ولكنه في الواقع يدل على الجهل للأسف، ويتابع: إطلاق العيارات النارية هو مرآة لعقلية غير مسؤولة، تتجاهل قيمة الحياة البشرية، هذا السلوك يكشف عن مجتمع يفتقر إلى الوعي ويعمل على شرعنة العنف والتهور باسم الفرح.
خبيرة نفسية: هناك اعتقاد سائد بأن إطلاق النار يظهر الشجاعة والفخر والمكانة الاجتماعية المرموقة، لكنه فعلياً يعكس نقصاً في الوعي والتعليم
من جهتها كشفت د. رهف معلا خبيرة في علم النفس من خلال حديثها لـ”تشرين”، أن إطلاق العيارات النارية في مناسبات الفرح تحولها إلى زهرة سوداء تدمي أرواح الذين فقدوا أحباءهم أو شاهدوا مناظر مرعبة خلال مناسبات احتفالية، حيث أكدت أن الأطفال الذكور، بشكل خاص، يعانون من هذه المشاهد التي تؤثر سلباً في نموهم النفسي وتفهمهم قيمة الحياة البشرية، حيث تشير بعض الدراسات النفسية إلى أن هؤلاء الأطفال قد يتبنون سلوكيات عنيفة في المستقبل، ظناً منهم أن العنف هو تعبير مشروع عن الفرح أو القوة.
أضف إلى ذلك، النساء اللواتي يجدن أنفسهن محاصرات بين طبقات العادات والتقاليد المتجذرة، يعشن حالة من الرعب والضغط النفسي خلال هذه المناسبات.
ليلى خالد، إحدى الأمهات اللواتي عايشن مأساة وفاة ابنها الصغير بسبب عيار ناري طائش، تصف الشعور بقولها: “كل طلقة رصاص كانت تنخر في قلبي، كنت أحتضن أطفالي بين ذراعي وأنا أدعو بأن نجتاز هذا الليلة بسلام”.
بينما يحدثنا العم أبو مهدي، أنه وأثناء جلوس حفيده ذي الـ ٤ سنوات على شرفة منزلهم في الطابق الرابع، بينما كانت الأم تحضر وجبة لطفلها، عادت لتجده مغمساً بدمائه، لتصاب بالهلع متسائلة (كيف أصيب طفلي؟ رغم بعد مصدر صوت إطلاق الرصاص ), ليتبين لاحقاً بعد التحقيق والمزامنة والربط بين وقت إصابة الطفل ووقت حفل زفاف قريب، أنه أصيب بسببه، على الرغم من أنه يبعد مسافة “حارتين” من المنزل.
استراتيجية
وبين أعيرة في الهواء للاحتفال والمجاملة وحوادث “ضرب نار” تترك علاماتها الفارقة، على جثامين ونفوس الأبرياء، يقترح ورد استراتيجية فعالة لمعالجة ظاهرة إطلاق النار في المناسبات، والتي تتمثل في التوعية المكثفة بنشر الحملات التي تسلط الضوء على مخاطر هذه الممارسة، وتقديم الدعم النفسي اللازم لأهالي الضحايا والمتأثرين، والعمل بشكل جاد وفوري على تطبيق صارم للقوانين من فرض عقوبات رادعة على من يتورطون في هذا السلوك الخطير، وتشجيع الاحتفال الآمن بتقديم بدائل آمنة وممتعة للاحتفال بالمناسبات، والتعاون المجتمعي بمشاركة الشخصيات المؤثرة في حملات التوعية من إعلام وندوات وغيره للحد من هذا السلوك الخطير، والعمل الجماعي بين المجتمع والمنظمات الحكومية للحد منها قدر المستطاع، ما سيوجد بيئة أكثر أماناً وطمأنينة للجميع.
وأوضحت معلا أن هذه الظاهرة تعتبر مشكلة اجتماعية معقدة، وأنه ليس تصرفاً فردياً، بل مرتبط بعادات وتقاليد ثقافية “متجذرة” في بعض مجتمعاتنا حيث يعتبر إطلاق النار “واجباً”، لذا يتطلب الحد من هذه الظاهرة لتغيير المفاهيم الثقافية العميقة، وهذا أمر يستغرق وقتاً ويتطلب جهوداً تعليمية وتربوية مكثفة، وأنه هناك اعتقاد سائد بأن إطلاق النار يظهر الشجاعة والفخر والمكانة الاجتماعية المرموقة، لكنه فعلياً يعكس نقصاً في الوعي والتعليم ويدل على وجود خرافات مستمرة تعد سبباً ومحفزاً في استمرار هذا السلوك.
تقصير في المسؤولية الاجتماعية:
من جهته نوه ورد إلى أنه ربما هناك نقص في المبادرات الجادة من قبل الجهات المسؤولة لمواجهة هذه الظاهرة، وأن هناك تقصيراً في تحمل المسؤولية الاجتماعية المشتركة بين الدولة والمجتمع المدني، لذا وجب التفاعل المجتمعي: وذلك بضرورة تفعيل وتعزيز دور الأسرة والمدرسة في تثقيف الأجيال الجديدة حول خطورة هذه الممارسات، ويشدد على أهمية إشراك كافة أفراد المجتمع المحلي في مساعي التوعية والتثقيف.
تغيير هذا النهج باستخدام الإعلام كأداة قوية لبث الرسائل التثقيفية ونشر الوعي حول الخطورة الفعلية لإطلاق النار في المناسبات.
الإعلام ودوره
كما نوه ورد بأهمية دور الإعلام في لعب دوره التوعوي، حيث يرى أن العديد من وسائل الإعلام تميل إلى تجاهل هذه القضية أو التقليل من أهميتها, ولذا لابد من العمل على تغيير هذا النهج باستخدام الإعلام كأداة قوية لبث الرسائل التثقيفية ونشر الوعي حول الخطورة الفعلية لإطلاق النار في المناسبات, كما يشدد على ضرورة تطبيق القوانين بحزم ضد مرتكبي هذه الأفعال، معتبراً أن العقوبات الرادعة قد تكون خطوة فعّالة نحو الحد من الظاهرة، وأن إنفاذ القانون وحده ليس كافياً من دون معالجة الأسباب الكامنة وراء هذه السلوكيات, ويجب إعتبار وقوع ضحية حقيقية ” لنتلافى” وقوعها على أرض الواقع.
تضافر الجهود
من جهتها بينت معلا أن هناك دوافع نفسية وراء هذا السلوك، بما في ذلك رغبة الأفراد في التعبير عن القوة والسيطرة والإثارة، وربما المكانة الاجتماعية, مثل إطلاق النار (بسبب نجاح أحد الطلاب غير المتوقع، أو فوز احد أعضاء مجلس الشعب في الانتخابات وغيره)، وهنا توصي بدورها.. بضرورة تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لتغيير هذه الأنماط السلوكية السلبية, لكن ذلك يتطلب تعاوناً مجتمعياً شاملاً، يشمل” التعليم، الإعلام، تطبيق القانون، والدعم النفسي والاجتماعي، مع ضرورة تبني استراتيجية هادفة”، مشيرة إلى أن هذه الظاهرة تعد تحدياً كبيراً يتطلب تضافر كل الجهود لمكافحتها، ولا يقتصر الأمر على الحاجة إلى توعية المجتمع بأخطار هذا السلوك السلبي، بل يتطلب ترجمة التوعية إلى أفعال ملموسة، وأن للإعلام دوراً بالغ الأهمية في نشر الوعي وتعزيز الفهم المجتمعي لهذه المشكلة، بالإضافة إلى ذلك، يجب على الجهات الحكومية تطبيق القوانين بحزم وفرض عقوبات رادعة على مرتكبي هذه الأفعال للحفاظ على الأمن والسلامة العامة, كما ينبغي أيضاً، وحسب رأيها، توفير الدعم النفسي والاجتماعي للتصدي للدوافع النفسية الكامنة وراء هذه السلوكيات، لذا لابد من تعزيز التعاون بين جميع الأطراف لتحقيق مجتمع آمن ومتحضر، خالٍ من هذه الظواهر الخطرة.
خبير قانوني: المشرع السوري حرص على السلامة العامة لأمن المواطنين وقد تجلى ذلك في قوانين وتشريعات عديدة.
قانون ولكن
وفي هذا السياق أكد أ. أبراهيم حولاني ماجستير في القضاء الجزائي من خلال حديثه لـ”تشرين”، أن المشرع السوري حرص على السلامة العامة لأمن المواطنين, وقد تجلى ذلك بالمرسوم التشريعي رقم/51/ لعام 2001, الذي منع إطلاق العيارات النارية وكذلك الألعاب النارية, من خلال المواد المنصوص عليها في المادة /11- 15/ من المرسوم /51/، وفي العام 2022 صدر القانون /14/ الذي عدّل بعض مواد المرسوم /51/ لعام 2001, وكان من بين هذه التعديلات أن شدد عقوبة من يخالف نصوص المواد 11- 15 وهي المواد التي تنص على منع إطلاق العيارات النارية في التجمعات مثل الحفلات, والأماكن السكنية, حيث أصبحت العقوبة “يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة، وبالغرامة من 100-500 ألف ل.س، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
أما المرسوم التشريعي /51/ لعام 2001، فقد تضمنت المادة /11/ أنه لا يجوز استعمال الأسلحة المرخصة في المناطق السكنية- التجمعات مثل الحفلات والمخيمات- المناطق الصناعية- النفطية، أو أي منطقة أخرى يحددها الوزير بعد موافقة رئيس الوزراء، كما أشار حولاني إلى أنه لا يجوز حمل الأسلحة المرخص بها في: مقارّ المؤتمرات والاجتماعات العامة ودور المحاكم- الموانئ والمطارات، الملاعب والأندية الرياضية فيما عدا الأندية المرخص لها بالرماية- وأي مكان آخر يحدده الوزير بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، ويستثنى مما سبق، من تستوجب طبيعة عمله حمل أو استعمال الأسلحة على أن يكون استعمالها أثناء قيامه بمهام عمله أو بسببها، لافتاً إلى أنه يحظر استعمال السلاح المرخص به لغير الغرض المرخص لأجله.
أما المادة/ 15/ فتنص على منع إطلاق الألعاب النارية في الطرق وداخل المنازل والمحال العامة وأماكن التجمعات، و المادة /6/ من القانون رقم /14/لعام 2022 : أنه تعدل المادة /43/ من المرسوم /51/ لعام 2001 لتصبح على الشكل التالي: يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة، وبالغرامة من100-500 ألف ل.س، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من خالف أحكام أي من المواد(١١-١٤-١٥-٢١-٢٣-٢٧-٢٨-٣٢-٣٤) من المرسوم التشريعي رقم (51) لعام 2001 وتعديلاته.