غزة.. هل غادر الشعراءُ من متردَّم؟
تشرين- وصال سلوم:
تتزامن ذكرى النكبة التي وقعت منذ سبعة وستين عاماً مع حرب غزة اليوم، بأبشع الصور والجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني شيوخه وأطفاله ونسائه، القتل والتهجير وهدم البيوت والبنى التحتية، على مرأى العالم والقنوات الإخبارية، صور أشلاء الأطفال وجثامينهم، ونزوح العائلات، والجوع والعطش، وانقطاع الكهرباء عن المستشفيات..
ذكرى النكبة تتجدد اليوم بنكبة غزة، بدماء جديدة لخانات فلسطينية عتيقة وأصيلة، أصالة وعروبة فلسطين، وأصحاب أرض وحقوق انتهكت ولازالت على يد كيان آثم مجرم يفتقد الشرعية..
من فلسطين كانت النكبة، وتمت أرشفتها في وجدان الشارع العربي وتوثيقها بلسان شعرائها وأدبائها الفلسطينيين والعرب.. غنينا أهزوجاتها، وقصائدها ولبسنا الشماخ الفلسطيني ورددنا هتافاتنا القوية بلسان عربي واحد مؤمن بأحقية وجود عربي فلسطيني، وبأن الأرض لنا ولو بعد حين.. ومع تتالي الغصات والأوجاع، وفي محاولة نقدية وجلد للذات، ولو أردنا التصويب على الشارع الثقافي العربي ومحاولة البحث عن محاكاة شعرية صاغت اليوم بعد أخبار الطوفان وحرب الإبادة على غزة، لكان الخذلان حاضراً بنخبة ثقافية مرت عليهم الأخبار مروراً عادياً بلا انفعالات شعرية ثورية، لم ينطقوا -حسب ما أزعم وبعد بحث جهيد- ببنت شفة، أمام ما حصل بغزة وخاصة يوم مجزرة الطحين التي استشهد فيها 112 مدنياً فلسطينياً وأصيب ما لا يقل عن 760 آخرين عندما فتحت القوات الإسرائيلية النار على المدنيين. والسبب تواجدهم وتجمهرهم أمام شاحنات المساعدات الإنسانية، وقتلتهم الدبابات الإسرائيلية وهم يحملون الطحين والمواد الغذائية.. صور مفجعة بكل معنى الكلمة، ماتوا جوعاً، بلا أي أرشفة، ولا هنهنة على أرواحهم، ماعدا النشرات الإخبارية، معقول!
زلزال الحرب على غزة، ومجزرة الطحين والمأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني لم تهز وجدان شعرائنا، ولم تشعل فيهم الحماس والعواطف ولم تؤججها؟
أين الشعر الحماسي؟ أين الشعر الخطابي الصاخب والغاضب والمتكاتف مع الضمير والنبض الشعبي العربي؟
يا خجلنا أمام شاعر غزة معين بسيسو الذي حمل غزة في حقائب منفاه وقلبه ونصوص شعره، معين الذي قال:
أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل من السلاح
وانظر إلى شفتيّ أطبقتا على هوج الرياح
وانظر إلى عينيّ أغمضتا على نور الصباح
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح
يا خجلنا من روح الشاعر الشهيد راشد حسين، الذي مات احتراقاً واختناقاً في غرفته بنيويورك، وهو صاحب العديد من القصائد التي تلفظ الاحتلال وتشير إلى هول السبي الفلسطيني ما بعد النكبة.
وهو القائل:
في الخيام السود في الأغلال في ظل جهنم
سجنوا شعبي وأوصوه بألا يتكلم
هددوه بسياط الجند بالموت المحتم
أو بقطع اللقمة النتنة، إن يوماً تألم
ومضوا عنه وقالوا عش سعيداً في جهنم
وفي مقاربة مابين ما كان يحدث مع اللاجئين وإذلالهم أمام مساعدات وكالات الغوث التي لم تصل حد الموت في مجزرة الطحين، قال وبكل القهر في قصيدته “لاجئون”:
وترى نجوم الليل مثل معسكرات اللاجئين
وكهيئة الغوث الحزينة يخطر القمر الحزين
بحولة من جبنة صفراء أو بعض الطحين
معقول، زلزال الحرب على غزة، ومجزرة الطحين والمأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني لم تهز وجدان شعرائنا، ولم تشعل فيهم الحماس والعواطف ولم تؤججها؟ أين الشعر الحماسي أين الشعر الخطابي الصاخب والغاضب والمتكاتف مع الضمير والنبض الشعبي العربي؟
زمان.. كان لفلسطين وقضيتها شعراؤها الذين كان لهم دور مهم في توثيق الحق الفلسطيني، ومن ذلك وما قاله الراحل هارون هاشم رشيد الذي لقب بشاعر النكبة، شاعر العودة، شاعر الثورة وخلدته السيدة فيروز:
سنرجع يوماً إلى حيّنا
ونغرق في دافئات المنى
سنرجع.. مهما يمرّ الزّمان
وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً، ولا ترتمي
على درب عودتنا موهنا
سنرجع.. مهما يمرّ الزّمان .. وتنأى المسافات ما بيننا
أينكم من حزن وقوة وجبروت كلمات كبار كلاسيكيي الشعر الفلسطيني الشاعر الراحل، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الذي قال:
“زحفت ألثم أرضي وهي باكية
والقلب باك وراحت تنتشي القبل
وعدت أنشق من عطر التراب هوى
في ظله التقت الأجداد والرسل
أهلي على الدهر تضنيني جراحهم
في ظلهم يتساوى العذر والعذل
أختاه لا تبكي على ديارنا فالتربة السمراء في انتظارنا
نلثمها بالحلم حتى نلتــقي شفاهنا على تذكـارنا
لا تسألي أين الهوى ولم يـزل يمشي المجون على آثارنا
تحملنا الأشــواق كل ليـلة إلى ربانا والى أنهـارنا
ويالروعة فدوى طوقان شاعرة فلسطين وخنسائها التي طافت حباً أينما حلت بفلسطينها والتذكير بمآسي بشعبها:
هنا كان سوق النخاسة، باعوا هنا
والديَّ وأهلي
فقد جاء وقتٌ سمعنا الذي منع
الرقَّ والبيع نادى على الحر:
مَنْ يشتري!
وهذي أنا اليوم جزء من الصفقة/ الرابحة
أمارس حمل الخطيئة؛ معصيتي أنني
غرسة أطلعتها جبال فلسطين.. مَنْ
مات أمس استراح
..الأسى يهطل، ليل القدس صمتٌ / وقتام
حظروا التجوال، لاتطرق في / قلب المدينة
غير دقاتِ النّعال الدمويّة
تحتها تنكمش القدس كعذراء سبية
ولروح محمود درويش ألف تحية يوم قال:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف – ومنا دمنا
يا فلسطين التي فقدت فيمن فقدت “متنبي فلسطين”، وشاعر المقاومة الفلسطينية، شاعر القومية العربية، وشاعر الغضب الثوري، وشاعر الصراع، والشاعر القدّيس، وسيّد الأبجدية، وشاعر العروبة، صاحب كل هذه الألقاب باعتباره أحد رواد شعر المقاومة سميح القاسم الذي حفظنا عن ظهر قلب ما قاله وغناه مارسيل خليفة:
منتصبَ القامةِ أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….
قلبي قمرٌ أحمر
قلبي بستان
فيه فيه العوسج
فيه الريحان
شفتاي سماءٌ تمطر
ناراً حيناً حباً أحيان….
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….
منتصبَ القامةِ أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….
قلبي قمرٌ أحمر
قلبي بستان
فيه فيه العوسج
فيه الريحان
شفتاي سماءٌ تمطر
ناراً حيناً حباً أحيان….
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….
ومن أبلغ رسائل محمود درويش إلى صديقه سميح القاسم يوم خاطبه درويش في قصيدة يقول في بعض سطورها:
“أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟ إذن كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟ سؤالي غلط -لأن جروحي صحيحة- ونطقي صحيح- وحبري صحيح- وروحي فضيحة. أما كان من حقنا أن نكرس للخيل بعض القصائد قبل انتحار القريحة؟
يا درويش وسميح وفدوى طوقان، وزياد ومعين وهارون وراشد و(أبو سلمى).. بعدكم نام الشعراء.