المواطنةُ والدولة والفكرُ العلمانيّ الذي يحمي الجميع.. محاضرة في عمق المفهوم والرؤية

تشرين- ثناء عليان:

«الوطن، الوطنية، المواطنة، الانتماء، والهوية» مفاهيم كبرى وحاسمة في حياة الشعوب والأمم، لكنها متداخلة في مدلولاتها، متضايفة في معانيها، سهلة القصد، صعبة الإحاطة، قديمة، متجددة ومتطورة ومختلفة باختلاف النظم والمرجعية وحقول المعرفة التي تصدر عنها.. انطلاقاً من أهمية هذه المصطلحات والمفاهيم ومعانيها وأهميتها ألقى الباحث شاهر أحمد نصر محاضرة في المركز الثقافي في طرطوس بعنوان «المواطنة والدولة»، بيّن فيها أن المواطنة هي مسؤولية انتماء الفرد إلى وطن (بلد) ما برضاه، وما يترتب على ذلك الانتماء من حقوق وواجبات، ويضمن حرية الفرد وكرامته في فضاء من المحبّة والتسامح وسمو إنسانية الإنسان، ولكي تتحقق المواطنة ينبغي أن تتحقق عناصرها الأساسية؛ وهي عناصر قانونية مدنية، وسياسية، واقتصادية اجتماعية وثقافية، وتُعرف درجة تحقق دولة المواطنة بمدى أداء الدولة والمواطن واجباتهما ونيل حقوقهما بمقياس الالتزام بمعايير المواطنة، مؤكداً أن المواطن هو العنصر الأساس في بناء الدولة، لأنّه هو المنتج الحقيقي لها، لذا ينبغي على الدولة أن تهتم بتلبية حاجاته الاقتصادية وتنشئته علمياً، واجتماعياً، وصحياً، وثقافياً، وسياسياً في مختلف مؤسسات المجتمع الأهلية والمدنية، وأن تؤدي واجبها في بناء وتمويل ورعاية تلك المؤسسات في مختلف المجالات، كي يستطيع المواطن في المقابل أن يؤدي واجباته.
لقد أصبح واضحاً –يضيف نصر- أنّ دولة المواطنة تحقق المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، وتوفر فضاء قانونياً للحرية الفردية والعامة المسؤولة التي تسمح برصد أمراض المجتمع وتعريتها، واتباع أفضل السبل لمعالجتها؛ وثمّة شواهد في تاريخ بلادنا تبين دور وسائل الإعلام والشخصيات والتنظيمات السياسية الوطنية في نشر الفكر التنويري ومحاربة ظواهر الفساد والتخلف، ولاسيّما في مرحلة ازدهار التجربة الوطنية في أواسط القرن الماضي، وأفضال النظرة الوطنية في التعامل مع المسائل الملحة، مشيراً إلى أن شعار «الدين لله، والوطن للجميع» (العلماني) الذي رفعه سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى سنة 1925، حفّز مناضلي الوطن، ومختلف قياداتها من مختلف الأديان، والطوائف، والمذاهب، ومن مختلف المناطق على التوحد، وخاضوا معاً معارك وطنية تحررية ضد الاحتلال الفرنسي.
ولفت الباحث إلى أن سورية شهدت تجارب كثيرة أثبتت أنّ حرية وسائل الإعلام الوطني خير وسيلة لمواجهة قوى التخلف والفساد، ومعالجة المشكلات الاجتماعية، مؤكداً أنه في دولة المواطنة يرتقي وعي المواطن والحاكم معاً، وتغتني حياة المجتمع، لأن نشوءها ارتبط بمفهوم العلمانية وتطبيق أسس الديمقراطية، لكن لا نستطيع القول إنّ مشروع دولة المواطنة استقر واستتبت الأمور لتطبيقه، ولا يمكن تجاهل المعارضة والمقاومة الشديدة التي يتلقاها من قبل قوى وشرائح مختلفة، ولاسيّما، محاربة فضائه العلماني.
وبيّن نصر أن مسألة بناء دولة المواطنة وفكرتها تعاني تراجعاً بسبب صعود التيارات والمذاهب الفكرية الغيبية المنغلقة على ذاتها والمستترة بالدين، والترويج للفكر الطائفي والمذهبي المنغلق، لافتاً إلى الانتشار الواسع لوسائل الإعلام والقنوات الإعلامية التي تروج للفكر الديني، والغيبي، والسحر والشعوذة، وندرة القنوات والوسائل التي تنشر فكرة المواطنة، والفكر العلماني، متسائلاً عن مصادر مراكز تمويل تلك الوسائل والقنوات، ودورها في خلق التطرف والإرهاب؟
ويرى المحاضر أن قيم المواطنة لا تتحقق دفعة واحدة، إذ لم تُحقق دولة المواطنة المساواة في الحقوق ولاسيّما مع انتشار حالات التباين في الثروة والجنس وأحياناً العرق والقومية، لافتاً لاقتراف بعض الدول التي تبنت مبادئ المواطنة والعلمانية في دساتيرها الاضطهاد بحق شعوبها، وشعوب الدول الأخرى، كما فعلت النازية والفاشية وعدد من الحكومات الشيوعية، ولم ينل السود في الولايات المتحدة حقوق المواطنة حتى ستينيات القرن العشرين، وقامت في الغرب والشرق حكومات ديمقراطية على أساس المواطنة، ولم تتبن العلمانية في دساتيرها، بل تتبنى ديناً رسمياً مثل إنكلترا، إذ تجتمع في رئاسة الدولة السلطتان الدينية والسياسية.
وفي رأيه ينبغي ألا تدفع حرية التعليم إلى تجاهل مخاطر وجود تعليم ذي طابع ديني أو فكري أو شوفيني متطرف منغلق، يدعو إلى الكراهية وسوء التعامل مع الآخر، مؤكداُ أنّ الإنسانية في حاجة ماسة إلى مفكرين تنويريين جدد وابتكار أساليب حكم جديدة تلبي متطلبات عصر المعلوماتية والذكاء الاصطناعي.

ويرى نصر أنّ بناء دولة المواطنة مهمة وطنية من الدرجة الأولى، ولاسيّما في عصر المعلوماتية، علماً أنّ الشبّان في عصر الأنترنت والمعلوماتية لن ينتظروا الكهول حتى يبنوا لهم دولة المواطنة، وسيفرض هذا العصر وأدواته الجديدة قيمه وثقافته التي تميزها الحرية والتغيير وعدم احتكار المعرفة والفكر والمعلومات، أو تقييد مبتكريها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار