في كل بيوتنا 

في القرية القاحلة التي تشتهي المطر، وحين يأتي تُقام له احتفالات، قالت لي السيدة المسنة: -إنه بيت أبيك، ادخلي، شاهديه! وهذه السيدة كانت تزورنا في المدينة كلما احتاجت لطبيب أو لزيارة جامعٍ تتبرك باسم صاحبه والضريح الذي يتوسطه وتتعامل مع أبي معاملة الأم المحبة الممتنة من دون أن تنال منا لقب جَدَّة!

كان البيت الطّينيّ صغيراً جداً بحيث لم يتسع فناؤه إلّا لشجرة رمانٍ واحدة نحيلة تبعد عن الدالية، في أصل الساق، وتلتقي معها في الفضاء الأزرق لتبدُوا معاً شجرة سحرية واحدة تثمر عنباً ورماناً وفي صدر البيت باب خشبيٌّ أبيض قادتني إليه لنشرب قهوة، رغم أن القهوة ليست مشروب القرية الشائع والمحبب. على عتبة الغرفة كان سياجٌ خشبيٌّ واطئ يفصل الأحذية، الواجب خلعُها قبل الدّوْس على البساط، وحين تركتني لتحضير القهوة، غزتْني التداعيات: هل كان من الممكن أن نعيش ونحن عائلةٌ كبيرة، في مثل هذا البيت فيما لم يغادر أبي قريته وتحمله شجون المهنة إلى مدينة كبيرة نصبح نحن من أهلها، لهجةً وعلاقات وعادات وتقاليد؟ لكن عيني ما لبثت أن رأت مرآة على يسار باب الغرفة وقد جُعِلَت من أصل الجدار! كانت اليد التي وضعتها وطيّنت حولها لتثبت في مكانها يداً حاذقة أدركت طول قامة صاحبة البيت الأصلية التي تخطف نظرة إلى هيئتها قبل أن تخرج من البيت لشأن ما! هذه المرآة، كنت أقول لنفسي، كانت قبل مرايا الخزائن والمغاسل في بيوتنا الحديثة، ولم تفُت السيدةَ المضيفة نظرتي الطويلة إلى المرآة فقالت متشكّية ضاحكة: لو أن أباك رفعها قليلاً ما كنت انحنيتُ كلما تمرّيت لكن أمك أقصرُ قامةً مني! وفي الواقع لم يخطر ببالي هذا الخاطر لأن فوق المرآة التي أصبحت مشوّشة بفعل السنين ولم تعد تهتم بالوجوه التي تمرُّ بها، كان رفٌّ صغيرٌ مزخرف يحمل قنديلاً مازال فتيله قابلاً للإشعال رغم وجود الكهرباء أما الجدار الذي صار ورائي في جلستي وعيني على الباب فكانت تتوسَّطه حقيبةٌ خضراء مطرزة حدستُ أنها تحضن نسخةً من القرآن الكريم وتحتها أربعة رفوف صُفّت عليها قواريرُ عطرٍ فارغة، لكنها بدت قطعاً فنية باهرة الصنع، فهي لا تشي بفراغها بسبب ألوان زجاجها المعتم، وهي مختلفة الألوان،، بجوارها “قمقمٌ” فضّي، كانت معرفتي به أنه يُحمل من الحج ويُملأ بماء الزهر أو الورد ليُرشَّ على أيدي المهنئين بالعودة من الديار المقدّسة، وكذلك ضفيرة من ثمار الرمان التي جفّت حبّاتُها في جوفها!

كل الجفاف والبرد في جوّ القرية تبدد مع مضيفتي التي كسرت، ما استطاعت، الفراغات المحيطة بها، لكأن أهل هذه الأرض طُبعوا على البحث عن الجمال أو صناعته من أبسط الأشياء، فحتى في بيوتنا الفقيرة، كل بيوتنا في القرى والمدن، سنجد هذه الزينة البسيطة التي تتخطى مرحلةَ ما بعدَ إقامة الحيطان والسقف والأبواب لتبدأ التجميل بمزاجها البسيط أو المثقف، هكذا قال لي ضيفٌ عربيٌّ زائر وهو مندهش من باعة الفاكهة في الدكاكين وعلى العربات وكيف يشكلون من التفاح والإجاص وحتى البطيخ لوحاتٍ تخطف البصر، وكيف يجعل سائق سيارة الأجرة من سيارته متحفاً خلاباً، من زينةٍ تبدو لمتأملها بستان فاكهة أو محلّ ألعابٍ مبهجاً للنظر!

هذه الفنون التي ستُسمّى عند الدارسين، بالفنون الشعبية وهي لم تخضع إلّا لقواعد الحسّ الجمالي الغريزي، ستغدو عند فنّانينا الكبار ينبوعاً ثرّاً يواصل “التشكيل” الموجود أصلاً في أريافنا ومدننا من دون استثناء! كنت مستسلمة للتداعيات حين قالت لي المضيفة إنها ستعلق قصاصات ورق براقة على أغصان الدالية لتحمي عناقيد العنب من النحل الجائع والعصافير الشرهة وخيالي يرى تلك القصاصات تتوهج كالحليّ الثمينة في ظهيرة قائظة!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
عمل جراحي نوعي في مشفى الباسل بطرطوس.. نجاح استئصال كتلة ورمية من الدماغ لفتاة بعمر ١٤ عاماً «صحة الحسكة» تتسلم شحنة جديدة من الأدوية "الزراعة" تعتمد أربعة أصناف جديدة من التفاح وتدعو للتشارك مع القطاع الخاص لإنتاج البذور رئاسة مجلس الوزراء توافق على مجموعة من توصيات اللجنة الاقتصادية المرتبطة بتقديم وتحسين واقع الخدمات في عدد من القطاعات بقيمة تجاوزت تريليون ليرة.. 28 مليون مطالبة مالية عبر منظومة الشركة السورية للمدفوعات الإلكترونية أميركا تعود إلى مسار «اليوم التالي» بمقايضة ابتزازية.. و«كنيست» الكيان يصوّت ضد الدولة الفلسطينية.. المنطقة مازالت نهباً لمستويات عالية المخاطر مع استمرار التصعيد شهادتا تقدير حصاد المركز الوطني للمتميزين في المسابقة العالمية للنمذجة الرياضية للفرق البطل عمر الشحادة يتوج بذهبية غرب آسيا للجودو في عمّان... وطموحه الذهب في آسيا مسؤول دولي: أكثر من ألف اعتداء إسرائيلي على المنشآت الصحية في قطاع غزة برسم وزارة التربية.. إلى متى ينتظر مدرسو خارج الملاك ليقبضوا ثمن ساعات تدريسهم.. وشهر ونصف الشهر فقط تفصلنا عن بدء عام دراسي جديد؟