التصوير الواقعي السوري المعاصر… وريشة عبد الله أبو عسلي المفرطة في الاتجاه (١/٤)
تشرين-سامر الشغري
لا يزيد عمر التشكيل في سورية بمفهومه المعاصر على القرن الواحد، لقد تفتح عليه الفنانون الرواد الأوائل لدى احتكاكهم واطلاعهم على تجربة الغرب العريقة والواسعة، وبرزت عندهم منذ البدايات الرغبة في محاكاة الفن الغربي كما يرى الباحث الدكتور فهد شوشرة، حيث انعكس ذلك عليهم من خلال تقليد مدارسه وأساليبه وتقنياته الغربية، وظهر تأثرهم بمصطلح الحداثة في الفن التشكيلي الغربي والاندفاع نحو التجريب والمعالجة الجديدة للعمل الفني.
واليوم نشهد ما يعتبر أشبه بانتفاضة على هذا الإرث الحداثي، من فنانين سوريين وجدوا في التصوير الواقعي أو الكلاسيكي بتصنيفاته المختلفة ضالتهم، وأنه على الفنان نقل ما يراه حوله وتفاصيل بيئته، دامجاً التقانة بالخيال، محققين في ذلك نجاحاً ملحوظاً عند الجمهور، ربما لأن الواقعية كما يرى الناقد التشكيلي سعد القاسم لا تزال الأقدر على الوصول إلى الجمهور، بحكم طبيعة تكوينه.
وحرصاً على توصيف هذه الظاهرة التشكيلية بدقة، قامت “تشرين” بفتح ملف التصوير الواقعي السوري المعاصر، من خلال استعراض آراء عدد من أعلامه والبداية كانت مع الفنان التشكيلي عبد الله أبو عسلي، الذي يوصف بأنه ملك الواقعية المفرطة في سورية.
لقد بقي أبو عسلي الذي تخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق سنة 1986 مخلصاً للفن الواقعي ولم ينحز لمدرسة أخرى، وحول دوافع هذا الإخلاص منقطع النظير يقول: (خلال ثلاثة عقود من تجربتي الفنية وأنا أحاول كشف الغطاء عن هذا الموروث والبيئة والقيم الجمالية الموجودة حولي، وفي كل مرة أجد نفسي وريشتي تنغمسان وتمتزجان أكثر في تراب المكان وتستخرجان هذا الفيض من اللون الذي لا ينضب، إنه العشق والهوية والانتماء).
وعندما سألته لماذا لم تستهوك المدارس الغربية الحديثة كما جرى لأسلافك من الرواد قال أبو عسلي: (فنانو تلك الفترة أغلبهم عادوا من دراساتهم في أوروبا ورسخوا مفاهيم وثقافة سائدة في تلك الفترة، وكانوا هم القدوة لنا في تأسيس الفن المعاصر في بلدنا، ولكن بالنسبة لي اجتهدت لأقدم فناً نابعاً من محليتي ولأني أميل بشكل كبير نحو الواقعية كانت لوحتي كذلك).
ورغم ما يتعرض له الرسم الواقعي اليوم من منافسة الصورة الرقمية والرسم الإلكتروني واستخدام برامج الحاسوب، فإن أبو عسلي يرى أن الكاميرا والمصور الفوتوغرافي لن يستطيعا إيجاد وبعث تلك الأحاسيس والمشاعر التي يبثها الفنان عبر لوحته، فالكاميرا برأيه قادرة على ضبط المشهد كما هو مع بعض التعديلات ببرامج الرسم الإلكترونية، أما اللوحة فلها معايير خاصة جداً تتعلق بالفنان ذاته وتختلف من واحد لآخر وتحمل رؤيته وإحساسه الخاص، لذلك تكون أقرب للمشاهد والمتلقي من صورة الكاميرا.
ويعتبر أبو عسلي أن الحداثة ليست حكراً على المدارس الجديدة، وأن الفن الواقعي قادر على مواكبتها، بدليل ظهور المدرسة الواقعية الجديدة، وأرشيف الرسم العالمي المعاصر يعطينا فكرة واضحة عن تطور الفن الواقعي وحضوره القوي، ولكن بفكر وفهم معاصرين وبتقنيات متعددة.
ويرفض أبو عسلي ما يُقال عن الرسم الواقعي بأنه نقل حرفي لمحيط الفنان، فهو يعطي للخيال الدور الأكبر مع المقدرة على الرسم في تجسيد العمل الفني، وهما برأيه متلازمان في شدة التأثير وإيصال المشهد المرسوم للمتلقي، ولدى الفنان هامش كبير في إعادة وصياغة المشهد مع الحفاظ على خاصية الزمان والمكان.
وليس كل مشهد واقعي صالحاً لأن يكون لوحة، بل هناك شروط يجب أن تتوافر لاختيار هذا المشهد أو ذاك، وهذه الانتقائية تجعل من أبو عسلي دائم التجوال والبحث عن لوحته في الطبيعة، حيث تستهويه الطبيعة البكر التي يجد فيها تكوينات عفوية لا تخضع لقوانين الإنسان، ويجد نفسه أكثر صدقاً في تناولها وإيصالها بشكل أسرع للمتلقي.
وبذلك تكون البيئة في بلدنا وتنوعها لعبت دوراً مؤثراً عند أبو عسلي في انحيازه للرسم الواقعي، فهو كما يصف نفسه ابنها وفيها يعيش، لذلك يرد لها الجميل في طريقة نشرها وتجسيدها عبر لوحته، ومنها يستمد هويته وهذه رسالته ويجب أن يخلص لها.