من أين تأتي الذكريات؟.. سليمان العيسى في حديثه مع البطل
تشرين- زينب عزالدين الخير:
من أين تأتي الذكريات؟ سؤال أطرحه على نفسي يومياً ولم أصل لإجابة شافية، لكن يكفي الواحد منا نظرة عابرة إلى شخص أو مكان ما، وتكفيه كلمة أو أغنية أو بيت شعر.. وإذ بالذكريات تفيض، حقيقة هي لا تحتاج لمن يستدعيها، تأتي كما يفيض النور في سماء الفجر، أو كما يتدفق نهر الشوق للغائبين عند أول لحظة صمت، كما الموج يمتد ويتوالد غير عابئ بوقتٍ ولا تأريخ، ثم تترك أثرها الذي تشاء في النفس، وتقف على الحياد، كاملة الشحنة، غير منقوصة القدرة والفاعلية، كأنها ما فعلت شيئاً!
بالأمس القريب زارنا أصدقاء صحفيون، وابتدأناه حديثاً عادياً، تقليدياً، لا يخلو من بعض المجاملات، ثم لم أعد أعرف كيف وصل بنا الحديث إلى معضلة الأدب المؤدلج، وكيف يمكن للأيديولوجيا أن تستبد بالموهبة، وتطغى على الإبداع بحد ذاته كفكرة وإمكانية.. وعلى الفور ذكرنا اسم الشاعر الكبير سليمان العيسى كمثال على الموهبة العملاقة التي لا تستكين لأيديولوجيا، فقد شغلته المسألة النضالية طوال حياته، وكان شعره بمتزلة بيان سياسي يلهب حماس الشباب الثوري المتعطش للنضال، لكنه كتب شعراً جميلاً، وجميلاً جداً.. وتذكرنا قصيدته “مصرع الفارس”، قال لنا ضيفنا: “يوم نشرت في الصحف السورية حملت الصحيفة معي إلى بستان الليمون، ورحت أقرأ بصوت عال، والحماس يهزني، حتى حفظتها كاملة”.
راحت ذاكرة الضيف تستعيد أبياتاً من القصيدة ونحن نساعده، وفاضت علينا شتى أنواع الذكريات في واحة سليمان العيسى، وما رحمت شوقنا لتلك الروح التي غادرت مجتمعاتنا العربية، وربما مجتمعات العالم إلى الأبد.
كان سليمان العيسى صوت شعبٍ، صوت قضية نابضة بالحياة، أما من يعتقد أنه كان شاعر سياسة أو أيديولوجية فهو واقع حكماً ضحية التبسيط. صحيح أنه دخل نادي العروبة منذ طفولته، وغادر هذه الدنيا قبل أن يغادر ناديه الأثير، بل قبل أن يغادر طفولته أيضاً، كان شاعر أمانٍ ورؤى وتطلعات، شاعر دهشة وجمال.. لقد غنى للحياة، للطبيعة، للإنسان، للتاريخ، للآتي من الأيام، للأطفال، لكل الأطفال من سن الخامسة وحتى الخامسة والسبعين.
شكّل شعره ركناً أساسياً في ذائقتنا الأدبية، قد يصعب علينا شرح أبياته كلمة، كلمة، كما يتطلب المنهاج ويوصي المدرسون، إنما نستطيع شرحها فكرة لقاء فكرة، وكنا نفهم قصائده ونحفظها، وكانت تطربنا.
كتب سليمان العيسى ذات يوم من عام /1969/ قصيدة بعنوان “مصرع الفارس” وقال عنها:”… إنها مهداة إلى الدم العربي الذي غسل الإهانة ودلَّ على الطريق.. إلى فارس سيناء البطل عبد المنعم رياض”.
كان عبد المنعم رياض في ذاك الوقت رئيس هيئة الأركان في الجيش المصري، وقد أشرف على وضع الخطة المصرية لتدمير خط (بارليف) خلال حرب الاستنزاف، ثم رأى أن يشرف على تنفيذها شخصياً، وتحدد يوم السبت الثامن من شهر آذار عام/ 1969/ موعداً لبدء تنفيذ الخطة، وبالفعل انطلقت نيران المصريين بالتوقيت المحدد، لتكبّد الإسرائيليين في ساعات قليلة خسائر جسيمة على طول خط الجبهة، وتدمر بعض المواقع في خط بارليف.. وكان ذلك أعنف اشتباك شهدته الجبهة المصرية حتى ذلك الوقت.
في صبيحة يوم الأحد التاسع من شهر آذار /1969/ توجه الفريق عبد المنعم رياض إلى الجبهة ليرى بنفسه، وعن كثب، نتائج المعركة ويشارك جنوده في مواجهة الموقف، وخصوصاً أولئك الواقفين في المواقع المتقدمة، وسرعان ما انهالت نيران العدو على المنطقة التي كان يقف فيها وسط جنوده، واستمرت المعركة التي قادها بنفسه حوالي ساعة ونصف الساعة إلى أن انفجرت إحدى طلقات المدفعية بالقرب من الحفرة التي كان يقف فيها فاستشهد البطل متأثراً بجراحه.. وبعد ثلاثة أيامٍ لا أكثر، وفي مساء الثاني عشر من آذار عام /1969/ قرأ الشاعر الكبير سليمان العيسى عبر أثير محطة الإذاعة والتلفزيون في سورية قصيدته الرائعة، ومنها اقتطفت هذه الأبيات:
بـيـضـاءٌ شـامـخة الأسى سيناءُ
تٌـسـقـى بـجـرحكَ روعةٌ وتضاء
مـسـح الدمُ البطلُ الهوانَ، وغُيبتْ
فـي قـاع نـعـشـكَ نـكسةٌ سوداءُ
يـا رافـعـاً عـلم التحدي.. بعدما
مـات الـتـحـدي.. فـالعرينُ إماءُ
أنـزلـتَ عن صدرِ العروبةِ صخرةٌ
وتـزحـزحـتْ عـن دربـنا غَمَّاءُ
اقـرأ عـلـى الـمـتسكعين رسالتي
بـدمـاك فـلـيـطَّـهَـرِ الـجبناءُ
اقـرأ عـلـيـهـم سورة الفتحِ التي
بِـيـعـتْ، فـدفـقـةُ وهجِها ظَلماءُ
اقـرأ عـلـيـنا باسم ربك، باسمنا
بـاسـم الـعـروبـةِ .. كلُّنا إصغاءُ
يـا فـارسَ الصحراءِ .. يقتلها الظما
والــتــبـرُ رواحٌ بـهـا غَـداءُ
دقَّ الـفـدائـيـون بـابَ نـشورنا
وكـألـف بُـشرى بالرسالة ،، جاؤوا
يـا فارسَ الرملِ الخضيبِ… تمزقتْ
بـفـمـي الـسلاسلُ فالصريرُ غِناءُ
افـتـح جـراحَكَ ينغمس في وهجها
جـيـلٌ ، ويـنبضُ في الصخورِ إباءُ
اَتـمـوتُ؟ يـنـبُتُ ألفُ ألفِ مُقاتلٍ
مـن دفـقِ جـرحك، تعشبُ البيداءُ