أمريكا وأرباح الحروب وهيمنغواي والمتنبي
تزداد حدة التداعيات السلبية للحرب الروسية – الأوكرانية المدعومة من حلف (الناتو NATO) وخاصة من الإدارة الأمريكية، بدعم لا محدود لحكومة أوكرانيا النازية وإقدامها على قتل الأسرى الروس بما بتنافى مع الاتفاقيات الدولية، فهل تكمن وراء هذا الدعم أسباب إضعاف واستنزاف القوة الروسية المنافسة لأمريكا فقط؟
برأينا أنه رغم أولوية هذا الهدف، لكن تكمن معه أهداف اقتصادية ربحية أمريكية كبيرة من دون خسائر ، خاصة أنها تجري بعيدا عن الأرض الأمريكية، وتضمن أمريكا من خلالها إضعاف مكونات الحرب الاقتصادية لمنافستها ، وفي الوقت نفسه تحافظ على عناصر اقتصادها، وهذه العناصر وصفها الكاتب الكبير (آرنست هيمنغواي) المتوفى سنة /1961/ بأنها (رجال ومال ومواد وصيانة ومعنويات)، وتؤكد الأرقام والأدلة ومن مصادر غربية أن المستفيد من هذه الحرب وغيرها هو الاقتصاد الأمريكي، وأن ادعاءات الإدارة الأمريكية بالحرص على مصلحة الشعب الأوكراني وحتى الشعوب الأوروبية غير صحيحة؟ّ فمثلا أكدت وكالة (ستاندرد آند بورز) الأمريكية أن شركات النفط والغاز الأمريكية حققت خلال الربعين الثاني والثالث من سنة /2022/ أرباحا تقدر بأكثر من /200/ مليار دولار أمريكي، وسيزداد معدل الربح، أي نسبة (الربح / إجمالي التكاليف) خلال الربع الرابع وخلال سنة /2023/ أيضا، وذلك بسبب زيادة الطلب الفعلي على حوامل الطاقة على العرض المتاح، وتجسد هذا بارتفاع متوسط سعر برميل النفط مثلا بين عامي /2018 و2022/ من /75/ دولاراً إلى سعر متوسط /105/ دولارات، بعد الحرب، وكذلك الغاز زاد بنسبة أكبر، وعبرّ عن هذا الكثير من المسؤولين الأوروبيين، وخاصة الرئيس الفرنسي (مانويل ماكرون)، باستغلال أمريكا للوضع العالمي المتوتر وتحقيق هذه الأرباح الكبيرة على حساب المستهلك الأوروبي، وخاصة أنها الدولة الأولى في إنتاج حوامل الطاقة، وكأن الأرباح الأمريكية تحققت وتتحقق على حساب مصائب الشعوب الأووربية.
وكما قال شاعرنا الكبير (أبو الطيب المتنبي) المتوفى سنة /965/ ميلادي، أي قبل أكثر من /1000/ عام:
“بذا قَضَت الْأَيَّام مَا بَين أَهلهَا مصائب قوم عِنْد قومٍ فَوَائِد”.
من جهة ثانية فإن هذه الحرب أنعشت الاقتصاد الأمريكي من خلال زيادة الطلب على منتجات (المجمع الصناعي العسكري Military–industrial complex)، وهو أساس الصناعة الأمريكية، وبلغة الأرقام فإن ألمانيا قررت شراء طائرات من طراز /إف-35/ من صنع شركة (لوكهيد مارتن) الأمريكية، التي تعد من أشهر شركات صناعة الأسلحة العالمية لتحل محل طائرة /تورنادو/ القديمة، كما أكدت إدارة الشركة بتاريخ 9/4/2022 مضاعفة عدد الصواريخ من نوع ( جافلين ) المخصصة لأوكرانيا وكذلك مضاعفة إنتاجها ليصل إلى /4/ آلاف صاروخ سنوياً لتلبية الطلب المتزايد، كما أن (بولونيا ) اشترت سنة /2022/ أنظمة (ريبر) المخصصة للطائرات المسيرة من الولايات المتحدة وبمليارات الدولارات، وأكد هذا الرئيس التنفيذي لـشركة (ريثيون Raytheon) الأمريكية بقوله: (ارتفاع مستوى التوترات في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية سيؤدي إلى ازدياد المبيعات دولياً) ، وينسجم هذا مع تقرير لمعهد استوكهولم (SIPRI) في سنة /2021/ أكد أن أمريكا امتلكت /41/ شركة من /100/ شركة عالمية تعد الأولى في العالم في إنتاج الأسلحة والخدمات العسكرية، واستحوذت على /54%/من إجمالي مبيعات الأسلحة العالمية، وكانت جميع شركات الأسلحة التي تحتل المراتب الخمس الأوائل هي أمريكية ، وهذا يفسر التركيز الأمريكي على زيادة مخصصات الموازنة العسكرية، فقد بلغت سنة /2021/ مقدار /801/ مليار دولار ، وهذا يضمن قوة اللوبي العسكري الأمريكي.
ومعروف أن أغلب المسؤولين الأمريكيين هم رؤساء أو أعضاء مجالس إدارة في أهم الشركات المنتجة للأسلحة، فمثلاً وزير الدفاع الأمريكي الحالي (لويد أوستن) هو عضو في مجلس إدارة شركة Raytheon (التي تعد واحدة من أكبر خمس شركات تصنيع أسلحة في العالم)، وكل هذا يترافق مع السياسة الأمريكية من خلال اعتماد مبدأ ( أمريكا أولا ً) ، وهذا لا يتحقق إلا على أساس تهميش العالم بأكمله.
وكدليل آخر على ذلك فإن أمريكا ، وهي المنتج الأول للغذاء في العالم ، حققت أرباحا كبيرة من تداعيات الأزمة الغذائية العالمية، ولا سيما بعد أن ارتفعت الأسعار بنسبة /45%/ ، حسب مؤشر ( منظمة الأغذية والزراعة الفاو) التابعة للأمم المتحدة، والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه حاليا ما موقف ( القارة العجوز)؟ هل ستبقى في الفلك الأمريكي، أم تعود للاندماج مع محيطها الجغرافي وتحديدا مع المحيط ( الأوراسي) وعندها قد تتجنب المشكلات الكبيرة التي تفتعلها أمريكا؟ وقريبا ستكون مشكلتا ( جورجيا مع روسيا وتايوان مع الصين)، وخاصة أنه تبين للقادة الأوروبيين ، مع اقتراب الشتاء القارس، أن أمريكا لم تف بوعودها للمفوضية الأوروبية بتأمين الغاز المسال لدولها وبأسعار قريبة من الأسعار الروسية، لكن لم تنفذ وعودها! وكانت القارة الأوروبية تؤمن احتياجاتها من روسيا، حيث وصل استيراد القارة الأوروبية من الغاز الروسي إلى /36%/ و/30%/ من الفحم و/10%/ من النفط الخام؛ وتختلف النسبة من دولة إلى أخرى، فمثلاً استوردت ألمانيا / 65% / من غازها من روسيا وإيطاليا /43%/ ، كما أن روسيا وأوكرانيا تنتجان ثلث صادرات العالم من مواد الأمونيا والبوتاسيوم الضرورية لصناعة الأسمدة الأوروبية، فضلًا عن كونهما سلة خبز العالم بتصديرهما نحو 30% من القمح والشعير و65% من زيت بذور دوّار الشمس و15% من الذرة.
فهل تتوسع دائرة الحروب المفتعلة من أمريكا، وتصح عندها رؤية المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) بأنه على (مدار 3421 من السنين الماضية كانت 268 سنة فقط خالية من الحروب)؟ وهذا يؤكد أن الثقافة الأمريكية مبنية على أساس الحروب وعلى حساب مصلحة أغلب شعوب العالم ، فهل تنتصر إرادة السلام على الحرب، مع قناعتنا بأن الكلمة العليا هي للأقوى، ولكن نتمنى ألا يجيّر هدر الدماء وزهق الأرواح لزيادة الشقاء والأرباح؟