كنزٌ لا يفنى

لا يحتاج المرء إلى امتلاك الكنز، أيِّ كنز، كي يشعر بجماله وقيمته وإبهاره!
معظم الكنوز الباهرة لا تتداولها الأيدي ولا تتناوبها العناصر التي بها نعيش ونستهلك من دون أن نأسى على فقدانها، وهي تتقلّب متعرّضةً للماء والغبار والاهتمام والإهمال والحاجة والاستغناء! هكذا تواردت خواطري، وأنا قرب مكتبة الأسد الوطنية أرقب شجيرات النارنج والفِناء الفارغ حيث تسطع الشمس على هواها، وهذا الفناء كان سنةً وراء سنة، يختفي وتحلُّ مكانه «أجنحة» تتكّئ على بعضها لتزدحم بالزوّار من دون فرْزٍ للأعمار واللّهجات والأزياء، وعلى بوابات الأجنحة المرتجَلة إعلاناتٌ كبيرة لأغلفة فاخرة وبطاقاتُ أسعار مكتوبة بخطّ اليد، تترجمها أيدي شبّان وشابات على فواتير صغيرة ممتلئة بالعناوين المتنوعة! أما الممرات التي غُطّيت بمظلات كما حال المعسكرات في الغابات، فكانت هي الأخرى تعجز عن عدّ الخطوات عليها وإيقاع تلك الخطوات لأن أصحابَها مثقلو الأيدي بأكياس الكتب، وقد لا يطلبون الخروج قبل أن يخلو المعرض من زوّاره، بل يتوجهون إلى «الندوة» المؤقتة تحت الشجر الجنوبي لطلب القهوة والشاي والعصير!
كم من موسم لهذا المعرض ملأ أكياساً من ثماره، وانتقل إلى بيتي ليتحول إلى بيادر! أقول هذا لنفسي متهيّبة تخطي عتبة القاعة الكبيرة أمام المسرح التي عوّضت الغياب عن الباحة الفسيحة واحتضنت المعرض: سقى الله أيام الجرأة على شراء الكتب في موسم الخصب وعلى تخصيص مثلها كهدايا للأصدقاء وأبناء الأصدقاء، حتى أرى صديقتي التي أحِنَّ عليها الدهر، كما أحِنَ علينا بحربٍ، حين نستيقظ كلَّ يومٍ نجدها قد سرقت منا الكثير حتى لم تُبقِ لنا إلا ثمنَ الخبز، فتقول لي إنها لم تأت للشراء، بل تركت راتبها في حرزٍ حريزٍ في البيت حتى لا تسقط في إغراء أي كتاب لكن ماذا تفعل حيال الحبلِ السُّرّيّ الذي يربطها بغواية رؤية الكتب؟ وكيف يمكن أن تغفو والمعرض يكمل أيامه في مكان تعرفه؟ وتُخرج من حقيبتها نشيرة أنيقة: انظري! ليس المعرض لبيع الكتب فقط! هناك حضور نشيط لأدباء سيوقّعون كتباً جديدة ومعارض فنٍّ تشكيلي، وهذا الفن بات جميلاً غزيراً كأنه «ديوان العرب» في عصر الشعر الذهبي، وحفلاتٌ موسيقية لعازفين مبدعين وعروضٌ سينمائية، ولا واحدٌ منها يطلب رسماً مادياً يربك ميزانيتنا المتواضعة. ثم تريد أن تذكرني بما لا أنساه: -أليس معجزةً أن ننعم بمثل هذه الكنوزمن دون أن نتكلّف ليرةً واحدة؟ حاول الإرهابيون حرماننا من الرغيف، فكيف بنا ونحن نعيش بما قيل: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ تتقدمني متجهة لقراءة برنامج المعرض اليومي: معظم العناوين التي رأيتها على رفوف دور النشر موجودة عندي.. تعالي نتجول في الأجنحة ونستمتع بمشاهدة الكتب ريثما يحين موعدُ عرض الفيلم، وفي وقت ما، وبعد ما أحدثته بنا الحرب سنشيع المثلَ البليغ: الكتاب كنزٌ لا يفنى، وليست القناعة كما يرددون!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار