لم يعد قلم رصاص!
الورقة البيضاء تغريك بسكب روحك ومشاعرك في طهرها ونقائها ولكي يتم البوح لابدّ من القلم هذا المترجم الذي يبدو بسيطًا لكنه يقوم بعمل خارق، هو ينقل الأفكار والأحاسيس والتعبير ليس فقط من الكاتب إلى الورقة وإنما من الورقة إلى القارئ، فهو بحق كقطعة من زجاج ممرد يحسبه الناظر لجةً من ماء فإذا به جسر تعبر عليه قوافل الأفكار والعواطف. قد لا يعرف الكثيرون ماذا يعني أن تكون كاتبًا وهو ليس بالأمر الهين أن تصطاد فكرةً جديدة و مبدعة وتصيغها كقطعة من المعدن النفيس بكلمات ومفردات تقطفها من شجرة البلاغة والمعاني بدقة وحرفية لتعبر عن فكرتك وتكون صورتك .
يغيب عن الكثير أنّ الحروف المرصوصة بانتظام وفي سطور قد لا تشكل حالة كتابة إن لم يكن القلم مغموسًا بحبر الصدق والضمير. وكثيرة هي الكتابات التي يكون مآلها إلى قضّامة الورق ذات الأسنان المدببة، وقليلة هي الكتابات التي تولّد في ذهن القارئ صورًا جديدة واستغراقًا في تأمل الذات والحياة وتشع بنبض هؤلاء الذين لا يتقنون هذه الحرفة، لكن من يتقنها لا يفوته أن يكون ضميرهم .
أن تكون متلبسًا بالكتابة فهذا يعني أنك تنصِّب نفسك شاهدًا ومتهمًا وقاضيًا في محراب الحقيقة وتحارب بقلمك أشباح الظلم وتملك جرأة محارب لتصارح نفسك، وتشير إلى أشياء يصعب الحديث عنها أو حتى تجاوزها، فلا مكان لكاتب يجلس على الشاطئ من دون أن يجرِّب الخوض في البحر والغوص لاكتشاف أسرار مكنوناته والتنفس بحرية عبر غلاصم كائناته.. إنها مسؤولية كبيرة على عاتقك .
ولعلّ الكثير ممن لا يعلمون عن خفايا هذه المهنة يعتقدونها أمرًا هينًا ومع مرور الزمن يصير عادة ويمكن توليد الأفكار بفنجان قهوة أو إشعال لفافة تبغ، والمؤكد أنهم واهمون، فالكتابة فعلٌ عظيم والفكرة تخوض مخاضًا طويلًا قد يمتد أيامًا، ثم فجأة يتلقف الكاتب ذلك النور والهدى في لحظة أغلبها لا تناسب الزمان أو المكان، قد يكون خائضًا في عمل جاد أو حديث ما، ثم تضيء الفكرة ويبدأ بهز رأسه بعد أن حوّل كلّ حواسه لاعتقال الفكرة التي قد تهرب وتضيع في زحمة ودهاليز العقل، ويصير كأنه مركبٌ من ورق في بحرٍ لجيٍّ وقد تكفيه قصاصة صغيرة ليحمي كنزه من الضياع أو الغرق.