رائحةُ النص

تروي القصة الطويلة أحداثَ حفل عشاء.
الراوي منذ لحظة دخوله إلى القاعة ينبهر من اتساعها وزحامها المتزايد ويصوّر أركانها بمسحٍ بصري سريع: لوحات جدارية، تمثال عاج تقلقل في مكانه حين اصطدم به صدمةً خفيفة، سجاد تغوص فيه الأقدام كأنه «غازون» ساحة البلدية، جَمْع نساء متأنقات يتحادثن مع ضحكات دائمة، ورجال يميز منهم أربعة رغم أن الجميع يتحدث لغة واحدة، لكننا بعد برهة سنكتشف أن اللغة مستوياتٌ ومتفاوتةٌ كتفاوت السماء والأرض خاصة حين تأتي سيدة لتحشر نفسها بجوار الراوي على الأريكة وتفتح معه أحاديث ودية: -ماذا تشتغل؟ كم قصةً كتبت؟ أين نشرت قصصك؟ والرجل يجيب مرتبكاً ومتفاجئاً بأنه معروف عند قارئة، وحين تنهض لجلب ضيافةٍ له ولها فإنها تتركه لنا، يتفرغ لوصف حفل العشاء والمدعوّين إليه: هنا احتفاء بصدور كتاب لمؤلف شهير حضره كتاب ونحاتون وسياسيون وتجري مع موجات الهواء «نميمة» تلتقطها الأذن على أساس أنها آراء شخصية بحت، فتلك السيدة المتقدمة في العمر التي يليق بها دور ملكة، في الحفل الذي يشبه فيلماً سينمائياً، أو دوقة على الأقل، تقول إنها لن تذهب إلى دعوة الغداء يوم الجمعة لأن صاحبة الدعوة تقدم عادة مواهب واعدة مملّة وهي تسميها «طعوماً» وذاك الذي يتنقل من مدعو إلى آخر يسخر منها قائلاً: تحسب نفسها راعيةً للفنون في القرن الثامن عشر، وأحدهم يسخر من شخصٍ لا نراه بين المدعوين!
يفتش الراوي عن نفسه، وهو ثابت على الأريكة، ويتساءل: كيف سأعبر مسالك هذه الأدغال من العلاقات؟ يتذكر مطبخ البيت وموائد أمه، ويصيبه رعبٌ من الجلوس المتخيّل إلى مائدة السيدة التي ذهبت لإحضار الضيافة: ماذا لو أخذ سكيناً غير سكينه؟ ماذا لو سقطت الشوكة من يده تحت الأنظار؟ لكنه لا يجد أجوبةً فيرفض الضيافة الراهنة: كأسَ «جن» وفنجان فستق رغم إلحاح السيدة الظريفة التي زاحمته على الأريكة!
سينتهي حفل العشاء بخروج الراوي من دون طعام ومن دون صرخة احتجاج! «يغادر بحنق كمن قطع لسانه وكما الأعمى يشق طريقه عبر الجمهور الصاخب نحو المخْرَج» ليس لأن « الدوقة» انزعجت منه وحقّرته وتعاملت معه كأنه حيوان، بل لأن ابن قومه وشقيق لونه طالبه بالاعتذار لها من دون معرفة ما جرى بينهما!
لا حاجة للقارئ إلى ذكر تمثال العاج في القصة ولا إلى تمييز أربعة من الحضور في الزحام الشديد ولا إلى الصراع الداخلي وتذكر اللون الأبيض، غطاء المائدة التي وعد بحضورها، ولا لأسلوب السيدة المتعالي مع الكاتب الشاب، لا حاجة للقارئ بكل هذا ليشمّ هواء أفريقيا في كليّة النص: ارتباك الرجل الأسود أمام البيض، التعايش الإنساني الهشّ بين المستعمِر والمستعمَر، التمييز العنصري عميق الجذور، ابن الأرض الذي يصبح غريباً بين الغرباء رغم كل الأقنعة! وإذ غاب ذكْر النبات نهائياً من النص كانت رائحة الغابات والأدغال حاضرةً، وإذا كان حبر كتّاب الأرض جميعاً بلون واحد، فإن النصوص لها روائح مختلفة مهما توارت وراء المجازات واللعبة الأدبية!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار