سامح صالح وثنائية البقاء والموت بين سماءٍ ونافذة

راوية زاهر
في عملٍ إبداعي مميز تلا ما بدأه في مجموعته الأولى (وكنت كابوساً في أحلام الأحصنة) غائصاً في هموم المبعدين عن الحياة الصاخبة، والمهمشين في قالب أدبي قصصي ساحر يقدم القاص سامح صالح مجموعته الجديدة (أنا أيضاً أراك) الصادرة عن دار الينابيع بدمشق، وصالح يعمل في مجال الطب النفسي في جامعة مونبلييه- فرنسا، متخصصاً بالعلاج المعرفي السلوكي، ومترجماً.
(أنا أيضا أراك) مجموعة قصصية استقرت بين دفتي كتابها إحدى وثلاثون قصة منوعة في تصوير للحظات التي أنجب التاريخ فيها وحوشه، في محاولةٍ جليةٍ لاستنطاق الجماد والماديات وتحميلها أفكاراً ومفاهيم شاملة، وكذلك براعة الاستخدام المميزة لتقنية الأنسنة.
وفي حوارٍ أثيري مقطوع بين امراة وحيدة تقبعُ بحضورٍ باهتٍ على قارعة نافذة، تاركة أفكارها تتدلى شلالاً من غفلة، وحيدةً إلا من صمتها، لا آخرَ قربها يبادلها الهموم مع غرابٍ برفقة صديقٍ، حمل على عاتقه مهمة الغوص في همومها وتفاصيلها، إذ بدا المكانُ مفتوحاً بين سماءٍ ونافذة على مرمى قدرٍ حزين يلفُ غموض الحياة..
تقوم المجموعة على أحداثٍ صغيرة، مبعثرة تجمعها تداعيات وتأملات، مكانها مفتوح وزمانها متشظياً، ولقصص الكاتب ملامح تتبدى في سرده المتقن المشغول بحساسية مشبعة بتأوهات جماداته، وصراعات شخوصه وثورة الإنسان على نفسه، والراوي لحدثه من باب العارف بكلِّ شيء، تاركاً للمتلقي رحابة الفكرة وتعقيداتها أحياناً، وقد التقط لحظات إنسانية مؤثرة وحميمية وموجعة، وأبرز فيها التجسيد الفني لأبطال قصصه، وأحداثها في صدقٍ جليّ الانفعال.. كما برز ظهور الرمز في أكثر من مكان، كالغراب وبعده المثيولوجي المرتبط بالشؤم في مكان، والحظ السعيد في أماكن أخرى، مُسقطاً إياه على مصير شخوصه. كما تجلى في نص (هي) حبيبة بجسدٍ طازج “بض” لاتعرف ثماره وهي في عامها الثلاثين، كانت مخيبةً لآماله، تركها معلقة على أستار الحلم، هائمة في كوابيسها في ثنائية ضدية متزاحمة الفكرة مع الواقع، لينتهي صراعها المتنامي بعد أن أزاحت غطاءً من ورق الشجر عن فخذيها ونفضت الرمل عن كتفيها لتجد بانتظارها قفصاً معلقاً وسط المنزل وفيه طير ملون يغرد لها.
جاءت قصص الكاتب مثقلة بالهواجس الكئيبة والخيالات الحزينة المتداخلة على شكل كوابيس قد تجنح نحوالسريالية أحياناً، (إن أردت أن تمتحن معدن امرئ دعه يولد في زمنٍ حرج). فيما الشخصيات مهمشة كالطفل المشلوح لخياله المجنح: (البرجان)، ومذكرات السجين، والسيد لطخة، وغيرها.. والعجوز التي تنتظر حتفها على الشاطئ، يسكنها هاجس التطور والنوم على حافة الأرق، والخوف من تبليط البحر أو حتى هربه من مكانه في غفلة من الزمن، وقد أحكم الكاتب حبكته، وتنامي الصراع الداخلي ضمن الحدث، كحالةٍ من القلق الوجودي وارتباطه بالمكان (البحر).. وكانت النهاية عندما تراجعت حفيدتها عن إيقاظها لتخبرها بأن البحر مازال نائماً بقربها.. هي قصة لمدينته التي نهبت الحضارة ماضيها وزرقة بحرها كل هذا وأكثر في نص (وصلنا إلى القمر).
كلُّ ذلك جاء بلغةٍ عالية، تكتنفُ الفكرة بعض الغموض، فليس بالأمر السهل الغوص في نتاج هذا الكاتب، الذي اعتمد الصورة المبهرة في ميله إلى لغة الانزياحات والاستعارة والتورية، لتصل رسالته مغلفة بالألوان: (لاتستطيع الشمس تجفيف أفكارك)، و(المنازل التي تترك ضوءها حارساً للأرق) و(الألم ينهش كتفه).. حيث ترافقت الحالة الشعورية مع اللغة ناقلة إياها بدقة، وقد سطا الخوف والقلق والأرق، والصمت، والخيبة على الحالة الشعورية للنصوص القصصية، وبرزت تقنية الأنسنة في أبهى صورها في قصة (ثيابها)، فأضفى الكاتب صفات الإنسان على الأشياء المادية المجردة، واستنطاقها، كأفكار وأفعال تدور في خلد النفس البشرية ساحبة القارئ إلى جدليات مضمرة بهدف الوصول إلى المغزى المطلوب، وعلى لسان السرير دار هذا الحوار مع خزانة تئنُ حنيناً إلى حبيبها صاحب البيت الذي نعته السرير بالأبله، (وأنا أيضاً أحبّ رائحة الأجساد والجلد المتعرّق في عناقٍ أبدي اللحظة.) ولذلك نجد عند صالح أن الخوف توأم الأمل وتاجهما الانتظار، والمخيلة تمسي ذكرى والذاكرة تهرمُ أيضاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار