قبل أن تضع الحرب في أوكرانيا أوزارها دخلت الدول الأوروبية في ورطة خانقة نتيجة انقيادها الأعمى للولايات المتحدة الأمريكية وإشهارها سيف العداء لروسيا ولم تحسب حساباً للعواقب الوخيمة التي يجرها هذا الانحياز المطلق للموقف الأمريكي الذي حوّلها إلى أداة بيد واشنطن تستخدمها لفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا ودق إسفين في العلاقات الحيوية والعميقة بين الشريكين التاريخيين الروسي والأوروبي من الصعب اقتلاعه في المستقل القريب .
ويبدو أن الخاسر الأكبر في هذا الصراع حتى الآن هو الدول الأوروبية فيما تتزايد أرباح الولايات المتحدة الأمريكية كل يوم، فبعد استقرار الطاقة القادمة من روسيا إلى أوروبا لعقود طويلة من الزمن وبأسعار منخفضة تجد العواصم الغربية نفسها أمام معضلة معقدة تتمثل في كيفية توفير الطاقة من نفط وغاز وفحم يتراوح اعتمادها على الاتحاد الروسي فيه من 10% الى 90% الأمر الذي فتح الباب لواشنطن لاغتنام الفرصة وحصر الدول الأوروبية بخيار شبه وحيد ألا وهو بيع الغاز الأمريكي المسال وبكلفة باهظة وحتى لو كان هناك توريد جزء من مصادر الطاقة من دول أخرى ستكون غير كافية وباهظة التكاليف وغير مستقرة أيضاً .
وجاء تسعير الطاقة الروسية وحتى الصادرات الزراعية والأسمدة والنيكل ومعادن أخرى ومحركات المركبات الفضائية وغيرها الكثير بالروبل ليسدد ضربة في الصميم للاقتصاديات الأوروبية ولن تستطيع الولايات المتحدة تعويضها من خسارة هذه الصادرات لكنها تجعله أكثر ارتهاناً للسياسة الأمريكية وأكثر تبعية لحلف شمال الأطلسي الذي يقوده البنتاغون بعد أن كانت صيحات من الدول الأوروبية لإنشاء ناتو أوروبي ينفصل عن الناتو الأمريكي كما سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية السابقة إنجيلا ميركل .
ويعرف الأوروبيون قبل غيرهم خداع الجانب الأمريكي وعدم مصداقيته وأنه لا يوفر حتى حلفاءه وأقرب المقربين إليه من هذه الأساليب، وصفقة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية مع استراليا المسماة أوكوس واستبعاد فرنسا التي كانت قد تعاقدت عليها سابقاً مع استراليا وأتمت كل الإجراءات دليل ساطع على هذه السياسة الأمريكية التي تتخلى عن اتباعها في أي لحظة ترى فيها مصلحة لها على حساب مصالح الحليف الأوروبي التاريخي ومثال آخر عن كيفية قيام واشنطن بإضعاف الاتحاد الأوروبي وتفكيكه عندما أغرت بريطانيا بالانسحاب منه وسياستها الدائمة ألّا ترى أوروبا إلّا كقارة عجوز وليست كقوة منافسة لها وأن تظل منطقة اليورو متأخرة عنها ليبقى اقتصاد الدولار مهيمناً عالمياً بلا منازع .
د.تركي صقر
90 المشاركات