جوهر الأشياء والثقافة التي تأتي كلغز
أيضاً.. شيءٌ ما، ذو صلة يحدث باللاوعي، دربٌ داخلي يترافق مع الرحلة الخارجية..”.. ذلك ما أباحت لي به الكاتبة الفرنسية فرانسواز كلواريك ذات حوار صحفي معها حول كتبٍ خمسة ألفتها عن سورية، وأضافت: سورية لم تفرض عليّ نفسها إلا بالثقافة والفن الذي يأتي كلغز.. هنا أنتم راسخون في الجوهر، وثمة هوية غير مفتعلة، شيءٌ يومئُ إلينا، ضاربُ الجذور في أصولِ العالم.. هكذا وجدت كلواريك سورية.. سورية التي أوحت لها بكتبها و رواياتها الخمس، ولاسيما روايتها “التائهة.. دروبها غامضة” و”سورية رحلة بحد ذاتها”، ولها أيضاً (البيمارستانات) أماكن الجنون والحكمة والخان وزمن القناصل، إضافة إلى أنها كاتبة؛ هي أيضاً فنانة تشكيلية، وكذلك محللة نفسية، إذ تتجاوز في لوحاتها عوالم وأديان وثقافات وحضارات مختلفة مستلهمةً من منحوتات في مدينة ماري في الشمال السوري جماليات كثيرة..
في ذلك اللقاء تقول فرانسواز كلواريك عن سورية: هنا تبدو الروائح والموسيقا والجمال أكثر تجريداً.. هنا مفهوم الزمن يبدو حراً، أو غير واقعي، وقد تجد كل الأزمنة دفعة واحدة و.. معاً، الآن والأمس والماضي البعيد، و.. المسافر إليها يقعُ على البراهين التي تؤكد الذاكرة الإنسانية، الضوء مثلاً يوصل لما هو غير مرئي، و.. لما قد لا تشعر به مباشرةً..
و.. أسألها: خمس عشرة زيارة لسورية، ومن ثم خمسة كتب عنها، ماهذا الشيء الذي في سورية، الذي يوحي، أو يُستوحى منه خمس روايات لفرنسية..؟ تُجيب: أنت في سورية، إذاً أنت في جوهر الأشياء، الحرارة الإنسانية، ولا شيء مزيفاً، أو غير حقيقي، كل ذلك يوحي، وأجد أن علة السفر؛ الرغبة التي تدفعنا إليه، هي اختيار الغرابة والتغرب، وفرط الرغبة في رؤية كلِّ شيء.. الارتحال ليس بهذه البساطة، فسورية توحي و.. تغوي..! من هنا فكتبي لا تقدم صوراً عن أمكنة، إنما هي تتحدث عن ناس هذه الأماكن، ناس من أزمنة متعددة تقدم مشاعر وأحاسيس، وكل من قرأ هذه الكتب، أو أحسَّ بهذه المشاعر التي كتبت عنها؛ وجد سعادةً كبيرة عندما انعكست هذه الكتب، أو وجد له انعكاساً فيها، كما أنها حرضت الكثيرين على السفر إلى سورية، وما يطبع كتبي؛ هذا التحليل النفسي الذي أمارسه على الشخصيات في هذه الروايات، كل ذلك لا تستطيع أن تقدمه وسائل الإعلام والاتصال المتعارف عليها..!
في روايتها “التائهة” أو “فاقدة الوجهة” ثمة سائحة تُصاب بمتلازمة (استندال)، وهذا المتلازمة يصفها الكاتب الإيطالي (استندال)؛ إن السياح لم يستطيعوا تحمّل صدمة الجمال لعدم صياغتها، وشخصية “التائهة” سائحة تصطحب دليلاً إلى حلب مع مجموعة، وبعد الزيارة عدة مواقع تخرج عن الفريق، وتسوحُ منفردةً، حيث يخطفها شيءٌ ما، جمال كالصدمة في حلب، فتدخل مع الناس وتستوحي التاريخ القديم وتصلُ إلى دمشق، وهنا تبدأ العوارض الخارجية في المتحف الوطني أمام تمثال ماري إذ تسحقها كثافة الجمال، وتجهزُ على مقاومتها النفيسة، وكأن التمثال لم يعد تمثالاً، كان ثمة لغز لاتستطيع فكَّ رموزه، ومن هنا تكون صدمتها الجمالية..
من بعض هذا الكتاب نقرأ:
“بانت حلبُ أبعدُ من الفندق، كان المشهدُ يُعانقُ المدينة، القبحُ يُخيف، لكن الجمال أيضاً، كان عليّ أن أخترقَ هذا الداخلي، أفرحُ وأحزنُ.. المدينةُ تتخذُ ألواناً كثيفةً وجميلة.. كان يستبدُّ بي شعورٌ بالجمال الخارق.. حلب تجعلني أبكي حيث الوجود مع بلدٍ حامل للأبدية، كنتُ أكتشفُ مشاهدَ جديدة، لكني لا أعرفُ ماذا أفعل.. شيءٌ يأتيني من الخارج لا أعرفه.. ذهبت إلى غير مكان حتى الإنهاك..!”..