عن الأحلام التي بقيت حية.. تحت شجرة التوت في القرية الضائعة
ما أصعب أن يكون الإنسان شاعراً، وما أروع أن يكون كذلك.. بهذه الكلمات، أباح لي يوماً الشاعر سليمان العيسى (1921-2013)، وبهذه الصعوبة، وبهذه الروعة أيضاً قدم سليمان العيسى مجموعاته الشعرية، التي بلغت أكثر من ستة مجلدات للكبار، ونحو خمسة عشر مجلداً للأطفال، مع إنه لم يضع نصب عينيه أن يكون شاعراً ذات يوم – كما صرّح في ذلك البوح – وإنما آمن بالكلمة منذ كان طفلاً في التاسعة من عمره يلعب تحت شجرة التوت في قريته الضائعة وراء الضباب والنسيان في لواء اسكندرون، وبقي يؤمن بالكلمة حتى أحدث كتاب أصدره، وأظنه “النعيرية .. قريتي” فهو كما يصف نفسه ممن يؤمنون بالحلم بعناد ويؤكد “ولن أتخلى عن حلمي في يومٍ من الأيام.. نعم أنا ابن الحلم، وسأبقى حتى آخر نبضة في حياتي، أعيد أحلامي تحت شجرة التوت، لأنني أنتمي إلى هذه الأرض ومؤمن بطاقاتها الخلاقة”.
ولعلّ هذا الحلم الذي لم يعدّه يوماً، بل نفى أكثر من مرة ذلك أن يكون نتاج أيديولوجيا، بل هو حلم الأمة العربية، ويعني بالحلم العربي الذي ألزم نفسه به هو هذه الأمة التي تمتد حضارتها في التاريخ إلى أكثر من ألف عام، والتي مرت بها كل كوارث العالم، وبعد أن كان الظن أنها بادت، فإذا بالغزاة يُبادون وتبقى هي..!
هل كان سيلمان العيسى يعيش وهماً طوال الوقت..؟! ولاسيما مع نزعات وزعرنات دعوات تفتيت المفتت من هذه الجغرافيا التي تُدعى “الوطن العربي” ..؟! ما هو الأكيد أن العيسى لم يكن متشائماً، وهو الذي كان على طول المدى ابن الحلم ضد التشاؤم، بل هو عتب على هؤلاء المتشائمين النائحين من شعراء العربية، فيذكر: أؤكد لكم أنني لا أزال أقرأ القصائد الباكية منذ عام 1967 إلى الآن، ولم أسمع كلمة تفاؤل إلا ما ندر، بل وصل النواح حد الشتائم أحياناً.. قد لا يكون انهزم حلم سليمان العيسى، ولكن حماسه الذي كان يُنادي فيه الوحدة العربية “كيفما شئت فاقبلي..” يئس أن يحققه له الناضجون، أو أن تقبل – هذه الوحدة- على أيدي “الكبار” فكان أن توجه إلى شريحة الأطفال يخاطبهم شعراً ومسرحيات، وغير ذلك من أجناس إبداعية أخرى.. وذلك بوصفهم – الأطفال- انتصاراً قادماً..!
فسليمان العيسى كان حلماً تجاوز عمره التسعين عاماً، يختزن في شعره ونثره وأسلوب حياته طفولة بقيت تحتفظ بدهشتها وعذريتها وقابلية الفرح والانكسار، وشعره – وكما يرى الكثيرون – شهادة على عصرٍ شعري كامل، مغموسة بوهج الأربعينات من القرن الماضي، بانبعاث الروح القومية، وشهادة ثرية للأصالة الشعرية في وجه الاغتراب والتشرذم مؤكداً عراقة القصيدة التي تمتلئ بماء الشعر الحقيقي.
سليمان العيسى الذي بقي بعيداً عن عراك وتناحر أشجار الحديقة، كما وصف السجالات بين أفرقاء كتّاب أشكال القصيدة من موزون إلى تفعيلة، وقصيدة نثر، بل استغرب “لماذا تتعارك أشجار الحديقة، برتقالة تشتم تفاحة، والتفاحة تشتم البرتقالة، مع إن الحديقة تتسع للجميع..” فقد وقف دائماً لصون القصيدة من الابتذال, غير أن اللافت في إصدارته الأخيرة؛ إن المكان كان هاجس نصه الأخير، ابتداءً من كتابه شعر ونثر “أنا والطبيعة” إلى كتب “أنا والقدس، ديوان لبنان وديوان حلب..”.
فالانتقال إلى الأمكنة الجديدة، غالباً ما يُقدم للمنتقل إليه فضاءات جديدة، لا تعدو مع الوقت أن تجد لها مطرحاً في أوراق الذاكرة وسجلاتها، وهكذا مع كل اكتشافٍ جديد، وفضاءات مختلفة، تتسع رفوف الذاكرة.. وعندما يصل “الحبل” في أدراج هذه الذاكرة إلى ذروته، يأتي المخاض بالنتاج الإبداعي، أي تصيرُ الذاكرة مهيأة لولادة ما تكتنزه سرداً إبداعياً، حتى وإن لم يكن صاحب الذاكرة مبدعاً، فإنه يفجّر ذلك المخزون من خلال طرق مختلفة، وبالتأكيد فإن الكتابة على اختلاف أجناسها وأشكالها، وحتى الفنون البصرية، ستمنحُ من هذه الذاكرة، حتى يكاد يكون الإبداع ذاكرياً بالدرجة الأولى .
وهنا يكون السؤال: ماذا لو تمّ هذا الانتقال قسراً وتهجيراً من ذلك “النبع الثر” الذي هو المنبت الأول، وماذا لو كان المهجّر شاعراً، وهو ليس شاعراً عادياً، وإنما هو شاعرٌ استثنائي بحجم مبدع كسليمان العيسى، هنا ستصير لـ”النعيرية” ضيعة الشاعر، ولـ”بساتين العاصي” الحارة التي ولد فيها، صور ومشاهد أخرى.. هنا لكل حجر قصة، ولكل شجرة توت حكاية، هنا الأشياء محملة بالذاكرة التي تفتح أدراج الحكايا سرداً وشعراً، ولعل كتاب “النعيرية..قريتي” الصادر للشاعر العيسى عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، أحد أصداء هذه القرية الكثيرة التي تعددت كتابات الشاعر عنها، فهي الحديث المشتهى والحلم الذي تسرب من بين الأصابع كحفنة رمل، لا يملُّ الشاعر الحديث عنها كتابة وقصائد وحوارات، ومسرحيات، وما شاء له من أجناسٍ إبداعية، يسجلها، كمحاولة أخيرة لتخليد ذلك الحلم الأخضر، الذي يزيد اشتعالاً كلما مرّ الوقت، ويزداد لذةً كنبيذٍ معتق في أحد الأقبية، وكمحاولة للتشبث بمعالم تكاد أن تندثر، وإظهاره حتى ولو على الورق. و..من هنا – ربما – كانت عودة الشاعر للكتابة للأطفال، ليبقى ذلك الحلم القروي متقداً أبداً، ولا يعرف نسياناً في ذاكرة.!