الرقميات تنهي رومانسيات القراءة!
انتشار الكتاب الإلكتروني والكتاب الصوتي، لم يكن إلا إقراراً بحسم المعركة لصالح العصر الرقمي. فالمغرمون بطقوس القراءة والكتابة على الورق الأبيض والملون بات عليهم تغيير عاداتهم مهما كان الأمر صعباً. حتى المدقق اللغوي الذي كان يشطب بالقلم الأحمر على الأخطاء النحوية، أصبح يمكن الاستغناء عنه بعد أن قامت المعاجم وبرامج التدقيق الإملائي بالمهمة على أكمل وجه.
حتى الآن يبدو الأمر طبيعياً، لكن ما سيواجه الثقافة العربية في المستقبل سيكون خطيراً جداً، بسبب وجود السيرفرات الكبرى في دول تعتقد أن هذه الثقافة باتت خارج التاريخ ولا مشكلة في اندثارها أو ضياعها عند أول خطأ مفتعل يمكن أن يحدث على شبكة الإنترنت، أو عندما تضيف الأرشيفات الضخمة نتيجة فيروس مفتعل يقضي على “الداتا” العربية التي تعمل اليوم بلا نسخ أصلية يمكن العودة إليها.
منذ أيام خرج أحد خبراء الموارد البشرية كي يخبر الناس عن الوظائف التي ستلقى طلباً كبيراً خلال السنوات القادمة وتنال أكبر الأجور عالمياً. وكانت المهن الأربع التي أعلنها الخبير تتعلق كلها بالذكاء الاصطناعي والتحكم بالروبوتات وبرمجتها وتنسيق عملها إلى جانب البشر الذين سيستقيلون من مهامهم على مراحل بحيث يتولى الآليون كل شيء.
القضية تبدو أكبر من إبادة الرومانسيات المتعلقة بعصر الطباعة ورائحة الورق، فالعرب المستهلكون للحضارة وغير المساهمين فيها، سيواجهون إشكالية الاندثار الثقافي في المراحل القادمة، لأن منتجي العصر الرقمي والمتحكمين فيه، بات بإمكانهم تغييب ما يريدون عن المشهد من دون أن يشعر بهم أحد. إنها أشبه بلعبة قمار ضخمة تقدم فيها الثروات الضخمة برضا على طاولة الخسارة، وعندها لن تفيد عملية العودة للبناء من الصفر لأن الرصيد المعرفي العربي سيكون بلا نسخ أصلية يمكن العودة إليها لصياغة معلومات رقمية بديلة.
في الحالة الطبيعية، فإن المطبوعات العربية هي الأقل من حيث العناوين وعدد النسخ عالمياً، فكيف إذا انتهت الطباعة بشكلها التقليدي وغابت المراجع الضخمة عن رفوف المكتبات لأنها موجودة على محركات البحث؟ اليوم لا يضطر الكاتب لأن يكون خبيراً باللغة العربية، فالقراء الآليون يقومون بالمهمة إلى جانب المعاجم التي تعيد الكلمات إلى جذورها بسرعة كبيرة.
العصر الرقمي يشبه المرحلة التاريخية التي قام فيها هولاكو برمي أمهات الكتب في نهر الفرات حتى أصبح لونها كحلياً من الحبر. فالنتيجة نفسها ستحصل إذا ما أراد القائمون على أزرار التحكم شطب المراجع وحظر الأفكار وتدمير بنوك المعلومات الخاصة بأي ثقافة عالمية.
لنتخيل لجوء الكتاب والروائيين إلى الموسوعات الضخمة من أجل الحصول على المعلومات التي سيدخلونها في نصوصهم. فالجميع يقول إنهم غير مضطرين للحفظ وتضييع الوقت في قراءة المجلدات الضخمة، مادام الأمر يمكن أن يتم بكبسة زر واحدة. ولكن ماذا لو تم حجب هذه الميزة من الكونترول العالمي الضخم الذي يتحكم بكل شيء؟.
ربما يحتاج العرب إلى إعادة رسم للاستراتيجيات المعرفية، ونحن هنا عن المراحل المستقبلية المنتظرة للتطور الرقمي التي ستزيح كل الكلاسيكيات المعهودة في التدوين والأرشفة إلى غير رجعة. هل يمكن الاستمرار من دون نسخ أصلية للثقافة العربية بعد أن تندر المطبوعات لاحقاً؟ المشكلة أن القضية تبدو خرافية اليوم وغير ممكنة الحدوث، لكن تحكم الغرب عموماً بالعصر المعلوماتي يجعل كل شيء وارداً ونحن في الأساس نعاني مشكلات كبرى على صعيد المعرفة والقراءة والمشاركة في إنتاج الحضارة العالمية.