أوكرانيا والديمقراطية العارية
في لقاء تلفزيوني مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قال: إن أميركا تمارس الإرهاب، وقد حدثت أخطاء كثيرة في حرب العراق.
رد المذيع بأن الأخطاء موجودة وقد اعتذرت الولايات المتحدة عنها، لكنها لا ترقى لتكون جرائم حرب… المضحك المبكي أن الخطأ الأميركي كلف العراق مليون قتيل على الأقل، أما “جريمة الحرب” الروسية في أوكرانيا فبالكاد يصل عدد قتلاها إلى ألفي قتيل.
في سياق سيل المعلومات المرتبطة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مرّ خبر عارض لم يلقَ الكثير من الاهتمام، يقول الخبر: إن مستشفى في مدينة ميونيخ الألمانية أصدر تعميماً إدارياً لموظفيه بالتوقف عن استقبال المرضى من حملة الجنسيتين الروسية والبيلاروسية.
بعد وصول التعميم إلى بعض وسائل الإعلام المحلية والدولية، عاد المستشفى ليعتذر عن إصدار هذا التعميم من دون أن يؤكد أو ينفي إلغاء مضمونه.
الأمثلة لا تنتهي على ممارسات “الديمقراطية” الغربية البيضاء، وهي لا تكشف لنا فقط ما كنا نعرفه، وهي أنها ليست سوى ديمقراطية مخادعة وكاذبة، مفصّلة على قياس المواطن الغربي، لكنها تكشف وبشكل فظ ووقح مدى استهتار هذه الديمقراطية ببقية شعوب العالم، ونظرتها إليهم كبشر من درجة أدنى، يمكن إبادتهم من دون وخز من ضمير أو رادع من أخلاق.
من يعتقد أنني أبالغ، فليحاول إيجاد تفسير لسماح شركة ميتا (فيسبوك) بنشر إعلانات وإدراجات تحث على قتل الروس والبيلاروس، مقابل إغلاقها أي حساب ينشر مادة تتعلق بالمق*ا*ومة في فلسطين أو سورية أو اليمن، أو صورة للرئيس بشار الأسد أو لل*سيد *ح*سن *نص*ر* الله.
معظم من ينتمون إلى محور المق*او*مة، لم يجدوا في ظهور الديمقراطية الغربية على حقيقتها أمراً جديداً، فهم يعرفونها تمام المعرفة من دون أوهام أو طموح بمكاسب مستقبلية، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن جزءاً يعتد به من قوانا السياسية، مأخوذ بمفاهيم الديمقراطية الليبرالية، وتخوض نضالها الاجتماعي والسياسي على قاعدة الوصول إلى هذا الشكل من الديمقراطية، كما أنها طموح الأغلبية من مواطنينا.
أمام هذا التناقض، والتعامل مع الواقع بالقطعة، تعجز لغة الحوار عن فهم غياب البصيرة عن هذه القوى، وعدم قدرتها على رؤية الصورة الشاملة التي تظهر حقيقة الديمقراطية الليبرالية من أنها لا تخدم إلا مصالح المركز الغربي الرأسمالي، وأنها خارج دائرة هذا الغرب ليست سوى لعنة تصيب المجتمعات، فتعمل على تفكيكها وتفجيرها من الداخل.
الديمقراطية الليبرالية منتج رأسمالي حصري، غير قابل للتطبيق خارج المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. ليس لأن الدول الغربية تمنع تصدير ديمقراطيتها خارج حدودها، لكن لأن ديناميكية هذه الديمقراطية ووسائلها وأهدافها غير قابلة للفصم عن بنية النظام الرأسمالي القائم على استغلال الآخرين ونهبهم.
يُعدّ مبدأ اقتصاد السوق حجر الأساس في الفكر الليبرالي، وتأتي الديمقراطية أداة لفرض هذا المبدأ على الاقتصاد في المجتمعات المختلفة. يقوم اقتصاد السوق على ترك الأسواق لآليات العرض والطلب وفتح الأسواق لتدفق البضائع من دون قيود حكومية. في ظل اقتصاد الوفرة في الدول الرأسمالية فإن أسواق دول الأطراف لن تكون قادرة على منافسة تدفق البضائع القادمة عبر الحدود، بسبب جودتها العالية أو أسعارها المنخفضة.
هذا التدفق يشمل المحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية، ما يؤدي إلى تراجع الإنتاج المحلي وتحول المجتمعات إلى اقتصاد الخدمات والاستهلاك.
يحتاج تدفق البضائع الأجنبية إلى وجود طبقة من الوكلاء محليين (سماسرة/ كمبرادور) تقتضي مصالحهم خلق البيئة القانونية والاقتصادية التي تسمح بانسياب البضائع من الخارج من دون قيود. لتحقيق هذا الهدف يعمل الوكلاء المحليون على إعاقة ظهور إنتاج محلي ينافس بضائعهم، وذلك من خلال المنافسة بالسعر أو شراء المؤسسات الانتاجية من القطاع العام (الخصخصة) أو القطاع الخاص الذي تحول إلى مصانع تابعة للمصانع القائمة في المركز.
تعمل طبقة السماسرة في الوقت نفسه على ضمان سن القوانين والتشريعات التي تسهل عملها، وتلعب هذه الطبقة دور الكابح لتطور الاقتصاد المحلي وإبقائه في حالة تبعية للمركز الرأسمالي.
أما صناديق الاقتراع التي تستهوي دعاة الديمقراطية الليبرالية، فليست سوى تفصيل هامشي تجميلي مضمون النتائج من خلال سلسلة القوانين التي تحكم المنظومة الاقتصادية الليبرالية السائدة، ويقتصر دورها على تحويل اقتصاد السوق إلى خيار شعبي ديمقراطي في المجتمعات المستهدفة.
لو قبلنا بفرضية مفادها أن المركز الرأسمالي والقوى التابعة له محلياً، أخلصوا النية وتجردوا من مصالحهم، وقرروا منحنا ديمقراطية ليبرالية شفافة ونزيهة، فإن هذه الديمقراطية لن تكون إلا مدخلاً للاستعمار والتبعية، لأن جوهر هذه الديمقراطية يقوم على التبعية واستغلال الشعوب ونهب ثرواتها.
لا يعدّ الموقف من الديمقراطية الليبرالية دعوة إلى الاستبداد أو تمجيداً له، ولكنه دعوة للبحث عن ديمقراطية بديلة يشكّل برنامج التحرر الوطني الديمقراطي حجر أساسها؛ ديمقراطية تسمح بتمثيل حقيقي للكادحين، وبالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة تحت سقف الثوابت الوطنية.
كاتب من الأردن