خيار الإغراء

الكتابة الإبداعية عمل شاق، لكنه خيار مغرٍ، ليس لإعادة تشكيل الواقع برؤية مختلفة، وإنما لإعادة فهرسة هذا الواقع بغية استنطاقه من جديد، وقسره على البوح بما خفي من حقائق كان لها الدور في تشكيل البنية النفسية للإنسان في مجتمع ما، ومن ثم إقامة حوار تفاعلي ذهني وسري جداً مع هذا الواقع، لتظهر النتيجة فيما بعد على شكل نصوص تختلف مضامينها وأسلوب أطروحاتها بين كاتب وآخر، بمعنى آخر؛ نستطيع القول إن العمل الإبداعي هو ناتج التفاعل بين الواقع وحواره السري مع الكاتب، ولكن قبل أن نصل إلى هذه النتيجة، هناك مقومات ارتكازية يجب أن تتوافر في الحوار السري بصفته العنصر الأهم في المعادلة، وهو الذي سوف يفرض النتيجة، لكون طرف المعادلة الأول ثابتاً حتى في حالة غليانه، لأنه يؤلف الجمع الذي نسميه واقعاً، بيمنا نتيجة المعادلة ما هي سوى خصخصة له، سوف يرفضها هذا الجمع في أكثر الأحيان، وخاصة إذا ما لامست المسكوت عنه في بنيته التقليدية، وهذه الخاصية يمكن عدّها الركيزة الأهم في نتيجة ما قبل النص.. الركيزة الثانية يجب أن تتوافر بالكاتب من حيث مرجعياته الثقافية التي تؤهله لإقامة حوار مع الواقع، والقبض على المسكوت عنه، وتقديمه على شكل صور ممنتجة تحت إشراف لغة منمقة قريبة من المجتمع الذي يستهدفه النص بالدرجة الأولى، بمعنى؛ النص مُطالب أن يغزو المتلقي في عقر ذاكرته الجمعية، ويجبره على الاستسلام له، لتجنيده قانعاً في صفه، وهذا لن يحدث إلا بتوافر مبدع قادر على ابتكار أساليب جديدة، ليس بالفكرة وحسب، وإنما بطريقة إقناع اللغة بأن تكون أيضاً تحت سيطرته بالكامل لتكشف عن جمالياتها من خلال النص الغازي، وكلا الأمرين يحتاج في البدايات الجنينية إلى موهبة، ومن ثم تأتي المتابعة البعيدة عن التبعية والحفظ، فالكاتب تقع على مسؤوليته، أكثر من غيره، إعادة محاسبة ما يقرؤه، وإعادة إنتاجه كنص آخر أثناء حواراته السرية مع ذاته، وإحالته إلى نص سابق خضع للمعايير السابقة نفسها، ومن ثم التخلي عنهما بشكل نهائي، ليظهرا في النتيجة على شكل نص جديد بصورة تخدم الفكرة التي يريد أن يغزو فيها المستهدف، بينما الكاتب لن يسمح للنص المنجز بأن يغزوه أو يسيطر عليه، وإنما سوف يخضعه أيضاً لذات المعايير التي عامل بها نصوص الآخرين من الكتاب، وسوف يكون إضافة جديدة لثقافته ترفد حواراته السرية مع نص جديد، قد لا يمت للسابق بأي صلة ، لتبقى العملية الإبداعية في حالة تجديد على حساب التقليد، وينتفي التعب لصالح الخيار المغري للكتابة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار