مذ كنتُ طفلاً، كانت لدي أمنية أشترك بها مع كل الأطفال الذين يسافرون بين المحافظات بـ (البولمان)، وهي الجلوس ولو مرة في كرسي السائق خلف المقود، ورؤية الطريق الذي تطويه العجلات من الأعلى. وبما أن إحدى ميزات هذه البلاد هي الاحتفاظ بكل أمنياتك ونقلها معك من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة إلى القبر من دون أن تتحقق واحدة منها، ما أزال أحلم بالركوب خلف المقود، لكن ليس بباصات السفر، وليس لرؤية الطريق من الأعلى، بل خلف مقود باص النقل الداخلي، لأتحكم بالطريق ومن به ومن يراقبونه.
إذ لا ينقص جودة قطاع المواصلات “العظيم” في دمشق لتكتمل سعادة مستخدمي شوارعها، سوى ما يقوم به سائقو باصات النقل الداخلي في الطرقات، حيث يكفي أن يرى السائق إشارة من يد أحدهم، حتى لو كان يحك رأسه، أو يسلم على أحد من بعيد، ليقف فوراً، ومن دون أن ينحرف ولو سنتميتراً واحداً، ويبقى في منتصف الطريق حتى يصعد من يريد الصعود، وينزل الواصلون، ويتبادل السائق الحديث مع من يسأله عن وجهته وأماكن مروره، ويصرخ على الركاب لأن الباص الذي يركب الناس فيه فوق بعضهم لا يزال فارغاً من الخلف حسب رأيه، وأحياناً يقوم من كرسيه ليقنع الركاب بصحة نظريته، ويرشدهم إلى أفضل طرق تسلّق الإنسان لأخيه الإنسان.
كل هذا يجري والباص في منتصف الشارع، والسيارات و(السرافيس) خلفه تطلق العنان لأبواقها، وسائقوها لحناجرهم بالشتائم والصراخ، لكن لا شيء من هذا ينفع، إذ إن الباص لن يتحرك قبل إنهاء السائق كبس الركاب، لتكتمل اللوحة السوريالية التي سيشارك بها في معرض (اكبسو 2022).
هناك من هو غائب تماماً عن هذا المشهد، من هو يا ربي من هو؟ ماذا كان اسمهم هؤلاء الذين يحملون بأيديهم عصا وصافرة؟ نسيت.