متلازمة هافانا.. «أهل» واشنطن أدرى بشعابها؟

على طريقة أفلام «الأكشن» الهوليودية، تم الإعلان عن أن كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي جو بايدن عانت من «حادثة صحية غير عادية» تسببت في تأخير زيارتها إلى فيتنام ثلاث ساعات. الحادثة أصابت هاريس بينما كانت في سنغافورة وتستعد للانتقال منها إلى العاصمة الفيتنامية هانوي، وذلك ضمن أول جولة خارجية لها (الأسبوع الماضي) تشمل هذين البلدين الواقعين في جنوب شرق آسيا، حيث تتصاعد المخاوف الأميركية من الحضور الصيني المتزايد في المنطقة، مضافاً إليها الخلافات حول بحر الصين الجنوبي، ومساعي واشنطن لحرمان الصين من حقوقها في هذا البحر.

أياً يكن من أمر جولة هاريس التي لم يُعلن حتى الآن عما حققته وما تم الاتفاق عليه، فقد عادت إلى بلادها بكامل صحتها، هذا ما بدا -على الأقل- من مظهرها في إطار مشاهد العودة التي بثتها الفضائيات، إذ لم يكن هناك بيان رسمي، لا عن وضعها الصحي ما بعد الجولة، ولا عن تلك الحادثة غير الطبيعية التي أصابتها في فيتنام.. لكن وسائل الإعلام انطلقت على الفور في إثر تلك الحادثة، لتدور التكهنات والتوقعات وتصل بنا سريعاً إلى ما يسمى «متلازمة هافانا».

*لماذا سريعاً؟

لأن «الحادثة الصحية غير الطبيعية» هي الاسم غير الرسمي لـ«متلازمة هافانا».. إذ يكفي أن يتم ذكر هذه الجملة حتى نعرف أن المقصود هو “متلازمة هافانا”، فهل أصيبت هاريس حقاً بها، وهل سنرى في الأيام اللاحقة أعراضها الواضحة عليها؟

 *الأميركيون.. حصراً وتحديداً

قبل الإجابة، لا بد أن نعرف ما هي “متلازمة هافانا”، ولماذا يُصاب بها الدبلوماسيون الأميركيون حصراً وتحديداً، حتى يبدو وكأنها تميزهم دون سواهم.. تعرفهم.. تلاحقهم.. وتضربهم في مقتل، فلا يستطيعون ممارسة أعمالهم بالدرجة المطلوبة؟

منذ أول ظهور لهذه المتلازمة في السفارة الأميركية بالعاصمة الكوبية هافانا عام 2016 -حيث أصابت عدداً من الدبلوماسيين الأميركيين- والنظريات تتعدد حولها وحول منشأها وما إذا كانت عدوانية، بمعنى أن دولاً ما، تقف وراءها؟.. لكن أياً من هذه النظريات لم يتم إثباته حتى الآن، كما لم يتم إثبات الآلية أو التقنية التي تجري بها الإصابة.. وعليه تُبقي الولايات المتحدة «خانة الاتهام» فارغة «لحين الطلب».

أشهر النظريات حول المتلازمة المذكورة ، أنها ناجمة عن سلاح هو عبارة عن جهاز طاقة موجه يقوم بإرسال موجات صوتية/ترددية (خفية/متناهية الصغر) للدماغ والأذن، لذلك فإن الأعراض الصحية تتركز في صداع شديد وأرق مزمن وطنين ومشكلات بصرية، وكأن الشخص مُصاب بارتجاج في الدماغ، وصولاً إلى حدوث تلف في مناطق محددة من الدماغ تختص بمهام الوعي والتركيز، وهذه هي النقطة الأساس التي تجعل من الدبلوماسي غير قادر على أداء مهامه بصورة جيدة، وعليه فهو إما أن يتنحى جانباً في مكتب ثانوي، أو يستقيل.

حتى هذه النظرية غير مثبتة، وتدعي الولايات المتحدة أن السبب في ذلك هو أن الموجات الصوتية الترددية هي بمثابة سلاح غير مرئي/خفي، وعليه لا تستطيع أن تثبت أمراً غير مرئي، بمعنى غير مادي أو غير محسوس. وتتهم واشنطن العديد من الدول (تحديداً من خصومها ومنافسيها على الساحة الدولية) بتطوير أسلحة صوتية فتاكة، علماً أنها هي أول من بدأ بتطوير هذه الأسلحة إلى جانب الترسانة الهائلة من أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها.

 *اتهامات.. ولا شيء مُثبت

لم تتوقف “متلازمة هافانا”، في حدّها الجغرافي الأول، بل انتقلت إلى سفارات أميركية أخرى حول العالم، وحتى إلى بيوت الدبلوماسيين الأميركيين.. ثم تحولت إلى استهدافهم أينما يكونون، في الشوارع، في الفنادق، في المطاعم، في الطائرات.. إلخ.

والحصيلة كانت إصابة العشرات منهم.. ولا تزال الإصابات مستمرة، ويتم إبلاغ السلطات الأميركية عنها حسب ما تعلن هذه السلطات.

مع ذلك يستغرب المرء كيف أن هذا الأمر لا يأخذ -حتى الآن- من الإدارات الأميركية الاهتمام الذي يُفترض أن يكون.. صحيح إن إدارة بايدن الحالية أعلنت قبل أيام أنها فتحت تحقيقاً «في الزيادة الواضحة في عدد الإصابات» لكن ليس هناك اعتقاد بأنها ستعلن قريباً عن نتائج.

في كل مرة يعود فيها الحديث عن “متلازمة هافانا”، يعود السؤال حول من ستتهم واشنطن؟.. علماً أنها سبق واتهمت بداية كوبا، روسيا، والصين.. ولكن لا دليل مثبت. بعدها تعود المسألة للخفوت، ثم لا تظهر إلا في التوقيت المناسب للاستثمار، هذا ما يرصده المراقبون الذين يرون أن جولة هاريس كانت «مناسبة» لعودة “متلازمة هافانا” إلى الضوء، وهي الجولة الموجهة ضد الصين، وبصورة ليست خافية على أحد.

*العودة إلى «هافانا»..؟

هنا لا بد من ملاحظة كيف أن واشنطن سعت لربط الصين بفيروس كورونا (الفيروس الصيني حسب ترامب) لكنها لم تنجح كما نجحت في ربط “متلازمة هافانا “بالدولة الكوبية، لمضاعفة عملية الحصار عليها، على اعتبار أنها تستهدف الدبلوماسيين الأميركيين، أو تسمح لـ«الأعداء» . وتتجاهل واشنطن ما جره الحصار الأميركي الخانق -خصوصاً الدوائي- على كوبا من ضحايا، ومن عرقلة عجلة التطور الاقتصادي، ولا يزال الحصار مستمراً، فلماذا لا يحق لكوبا اتهام واشنطن بالتسبب بقتل الكوبيين، أليس الحصار الاقتصادي سلاح دمار شامل بيد الولايات المتحدة؟

لنلاحظ أيضاً أن الولايات المتحدة وجدت في “متلازمة هافانا” إمكانية لإبقاء اتهامها للصين بأنها مصدر “فيروس كورونا”، قائماً وقيد النقاش العالمي على الدوام، حيث إنها ما زالت تفشل في إثبات التهمة، على اعتبار أن الشيء بالشيء يذكر، إذ إنه يكفي أن يعود الحديث عن مرض ما، أو فيروس ما، حتى يبدأ الإعلام العالمي بالحديث عن كورونا وربطه بالصين، أو على الأقل حتى تبدأ الولايات المتحدة من جديد بإطلاق التصريحات والبيانات التي تربط نشأة “فيروس كورونا” بالصين، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، تعيد الولايات المتحدة استغلال “متلازمة هافانا” كورقة في مواجهة قوة روسيا المتصاعدة عالمياً، باعتبار أن روسيا تطور أسلحة أعصاب «محرمة دولياً». والهدف تشويه صورتها بين الدول والشعوب ومحاولة إدانتها دولياً.. إلى جانب تصعيد حالة عدائية بين الأميركيين ضدها، باعتبار أنها تستهدفهم دون سواهم.. لكن الولايات المتحدة فشلت فشلاً تاماً في إثبات الاتهامات.

ومن جهة ثالثة، تريد الولايات المتحدة الاستمرار في استغلال مسألة أنها ضحية ، وذلك لإدامة استدرار التعاطف والتأييد لأي خطوة تتخذها ضد خصومها ومنافسيها على الساحة الدولية، خصوصاً روسيا والصين في المرحلة الحالية والمقبلة.

رغم ما سبق فإن العودة الحالية لـ”متلازمة هافانا” إلى ساحة الضوء لن تكون طويلة، حيث لم يحن الوقت بعد لاستثمارها كما ترغب الولايات المتحدة، هذه العودة هي مجرد تذكير أو لفت نظر، إذا جاز التعبير، أمام الخصوم والمنافسين، إلى أنها تستطيع إعادتها للضوء واستثمارها متى شاءت، وأنها إذا ما أرادت فهي تستطيع تصعيد الاتهام ونقله إلى دائرة الفعل، وربما إثباته، من يدري، فهي لها تاريخ طويل من تزوير الأدلة وتضليل الرأي العام الأميركي والعالمي.. والعراق ما زال أكبر مثال، هذا إذا لم نذكر ليبيا أيضاً وسورية واليمن، وغيرهما كثير.

 *نظريات مضادة

الآن.. لنضع كل ما سبق جانباً، ونتحدث عن “متلازمة هافانا” باعتبارها مرضاً قائماً فعلاً، فهناك مصابون وهناك أعراض واضحة، هذه حقائق من نوع لا يمكن نكرانها أو تجاهلها كما يُقال، لكن السؤال هو لماذا يتم التركيز على النظريات التي تتحدث فقط عن الاستهداف والاتهام، ولا يتم التركيز على نظريات تحدثت مثلاً عن أن هذه الأعراض قد تكون ناجمة عن نوع من المبيدات الحشرية يتم استخدامها لمكافحة بعوض «فيروس زيكا» وإذا ما تعرض شخص لها لعدة مرات فهو سيصاب بالأعراض نفسها التي أصابت الدبلوماسيين الأميركيين في هافانا، هذه النظريات تتحدث عن تحاليل الدم التي أجريت لهؤلاء ووجود نسبة من هذه المبيدات، وأنه مع زيادة التبخر التي سُجلت في عامي 2016 و 2017 والتعرض المفرط لهذه المبيدات فقد يكون لدينا أعراضاً صحية مثل تلك الأعراض التي تسمى “متلازمة هافانا”.

وهناك نظريات تركز على الحالة النفسية (وأن الإصابات المتعددة هي عبارة عن حالة من الهستيريا الجماعية- العدوى الهستيرية أو الهراع) بمعنى أنه يكفي أن يُصاب شخص ما، ثم يتحدث هذا المصاب عن إصابته ومخاوفه حتى تنتقل المخاوف إلى شخص ثاني وثالث ورابع.. وهكذا.

لنذكر هنا مقالاً نشره موقع «Science-Based Medicine» في شهر آذار الماضي وتضمن انتقادات وجهها كل من عالم الهندسة الحيوية كينيث فوستر، وعالم الفيزياء الحيوية س.ك شو، إلى التقرير الصادر عن الأكاديميات الأميركية الوطنية في عام 2020. قائلين بأن أعراض “متلازمة هافانا “لم يكن سببها أسلحة طاقوية/صوتية، وأن اللجنة التي أصدرت التقرير كانت «مُنقادة عبر أجندتها للتركيز على تلك الأسلحة كمتسبب في الأعراض». وأضافوا بأنه كان «ينقصهم الوقت والموارد لاستكشاف نظريات أخرى، مثل إشراك عالم نفس اجتماعي يمتلك الخبرة في الأمراض النفسية الجماعية».

* فيما بعد..

الآن.. ربما تكون هذه النظريات صحيحة، بما يؤكد وجود «متلازمة هافانا» ثم جاءت الولايات المتحدة لاستثمارها سياسياً واقتصادياً (وربما عسكرياً لاحقاً) بدءاً من ربطها بكوبا وتسميتها باسم عاصمتها، مروراً باتهام الدول.. وهكذا. لا شيء مستبعد في الأجندات الأميركية خصوصاً في المرحلة المقبلة حيث الزعامة الأميركية على المحك تماماً.. وعليه لننتظر الأيام المقبلة فربما كان لـ”متلازمة هافانا” دور ما.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار