سحب «تفويضات الحرب».. أميركا مستمرة تهديداً عالمياً

من المضحك المبكي أن يتم تناول مسألة سحب تفويض الحرب من الرئيس الأميركي ووضعه بيد الكونغرس، من باب «كيف ستتعامل/ أي تواجه الولايات المتحدة التهديدات ضدها؟» وهي التي تمثل تهديداً لكل الدول، حتى تلك التي تعتبرها حليفة لها.

ورغم أن «تفويض الحرب» آنف الذكر متعلق بالعراق تحديداً، فإننا لا نجده إلا في مساحة قليلة ضمن التحليلات والدراسات وتوقعات المراقبين، بل إن تلك المساحة القليلة لا تتناول العراق إلا من باب «كيف سيواجه التهديدات والإرهاب؟» في حال انسحبت الولايات المتحدة منه وفق «قرار سحب تفويض الحرب من الرئيس» وكأن الولايات المتحدة هي «الملاك الحارس» في العراق وليست الشيطان الذي نفث وينفث سمومه في كل أرجاء البلاد.

وعلى عجل يتم ذكر أن تلك التهديدات وذلك الإرهاب هو من صنع الولايات المتحدة، عامدة متعمدة، وهي التي اتخذت قرار محاربة العراق، الدولة القوية المتماسكة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً والتي لها كلمتها ومكانتها في محيطها العربي والإقليمي.. وبعدما دمرت العراق تأتي اليوم لتقول إن حربها ضده كانت خطأ (ليس بحق العراق بل خطأ ضدها بسبب ما تسميه حالة الإرهاق والتكاليف الباهظة التي تكلفتها في هذه الحرب) وكان ذلك الخطأ -كما يقولون- بسبب وضع قرار الحرب بيد الرئيس، وسحبه من يد الكونغرس، وبالتالي لا بد اليوم من إعادة القرار إلى أصله أي إلى الكونغرس.. أي أن المسألة برمتها شأن داخلي أميركي حسب المداولات والمناقشات بين البيت الأبيض والكونغرس وحسب ما يتناوله الإعلام الأميركي.. أما العراق فلا يعدو كونه «فاصلة» في مشروع قرار سحب تفويض الحرب (أو تفويضات) الحرب التي بدأت مع تسعينيات القرن الماضي، بتفويض عام 1991 أي عقب أزمة العراق- الكويت، ثم تفويض عام 2002 بالحرب على العرق، وبينهما تفويض عام 2001 بالحرب على أفغانستان.

(في عام 1991 فوض الكونغرس جورج بوش الأب بتوجيه ما قيل حينها ضربات عسكرية ضد العراق لإجباره على الانسحاب من الكويت فكانت «عاصفة الصحراء» التي تركت دماراً كبيراً في كل شيء في العراق.. وبعد نهاية عاصفة الصحراء أواخر شباط 1991 شنت إدارة بوش حرباً اقتصادية استمرت 13 عاماً أكملت تدمير ما تبقى من العرق.. وفي أعقاب هجمات 11 أيلول منح الكونغرس جورج بوش الابن تفويضاً أكثر شمولاً لما سماه «قتال تنظيم القاعدة» أي تفويضاً لضرب أفغانستان والعراق.. تم غزو أفغانستان عام 2001 وبعد عامين تم غزو العراق، وها هي الولايات المتحدة تنسحب من أفغانستان لتتركه نهباً لـ«طالبان».. وتقول إنها تريد الانسحاب من العراق، وفق مشروع قرار إنهاء تفويضات الحرب القديمة.

في شهر آذار الماضي قالت النائبة باربرا لي في مؤتمر صحفي: إن تفويض استخدام القوة العسكرية “الحرب” استخدم منذ عام 2002 أكثر من 40 مرة لشن هجمات في 19 بلداً.

هذا كلام ظاهره جميل، وباطنه خبيث، لأن الهدف من إنهاء تفويض الحرب ليس إنهاء الحرب وإنما تقييد صلاحيات الرئيس فلا يكون بيده أهم القرارات في البلاد (باعتبار الولايات المتحدة تعتاش -بالأساس وبالاستمرارية- على الحروب ودوامها) وبما يقلص من سلطات الكونغرس وقوته المهيمنة سياسياً وعسكرياً.

هذا الأمر واضح جداً في مختلف تصريحات المسؤولين الأميركيين ومنهم آدم سميث رئيس لجنة خدمات القوات المسلحة في مجلس النواب، والذي يقول: ينبغي لأي تفويض جديد أن يحمل موعداً محدداً، لناحية البدء والانتهاء، وأن ينطبق على دول محددة.

أيضاً هذا الأمر واضح جداً في مسألة أن سحب تفويض الحرب ينطبق فقط على تفويض عامي 1991 و2002 وليس على تفويض عام 2001 الأكثر شمولاً والأوسع نطاقاً.

بمعنى أن إنهاء تفويض حرب العراق لا يعني بالضرورة أن تنسحب القوات الأميركية منه، إذ بإمكانها أن تبقى بموجب تفويض عام 2001.

إذاً المسألة ليست في أن الولايات المتحدة تفكر أو تنوي أو هي بصدد إنهاء حروبها، بل هي بصدد «تدوير» حروبها لتتناسب مع عالم جديد يتشكل، فيما الأميركيون يختلفون على «العدو» أو على من يجب أن يحاربوه أولاً، أي من يشكل التهديد الأكبر على الزعامة العالمية للولايات المتحدة، علماً أنه لم يعد من الصحيح القول إن الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بالزعامة العالمية، هي نفسها تعترف بذلك، فيما واقع التطورات العالمية وصعود العديد من القوى، يقول ذلك بشكل واضح جداً ولا لبس فيه.

ماذا في التفويض الجديد المقترح؟

أولاً، سيتم تشديد القيود على القانون الخاص بسلطات الحرب الصادر عام 1973 عندما كانت حرب فيتنام تقترب من نهايتها، وهو قانون يلزم الرؤساء بالحصول على موافقة الكونغرس بعد دخول القوات المسلحة الأميركية في حرب أو عمليات قتالية طويلة، وإذا لم يوافق الكونغرس، ينبغي وقف الحرب والعمليات العسكرية بعد 60 يوماً من انطلاقها. كما يُلزم الرؤساء شرح قراراتهم العسكرية بشكل أوضح للكونغرس وللشعب الأميركي.

ثانياً، هناك بند يقطع تلقائياً تمويل العمليات العسكرية التي لم يصرح بها الكونغرس، ويقلص الفترة الزمنية التي يتعين على الرؤساء خلالها إنهاء العمليات العسكرية غير المصرح بها، فضلاً عن أنه يسحب التراخيص الحالية باستخدام القوة العسكرية، بما في ذلك الإجراءات التي وافق عليها الكونغرس لغزو أفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2002.

ثالثاً، سيحدد المشروع تعريفاً للأعمال «العدائية الحربية» في قرار سلطات الحرب، وهو ما يعد تحولاً كبيراً نظراً لأن الإدارات الأميركية السابقة سواء أكانت جمهورية أم ديمقراطية، فسّرت تفويضات الحرب على أنها تمنح الرئيس سلطة شن عمليات عسكرية من دون الرجوع إلى الكونغرس.

منذ بدء تفويضات الحرب للرؤساء الأميركيين والكونغرس يعبر عن امتعاضه ويطالب برجوع الرئيس إليه في قرارات الحرب الموسعة والهجمات المحددة، لكن هؤلاء رفضوا إعادة تفويض الحرب للكونغرس مرة أخرى.. واليوم يسجل الرئيس جو بايدن منعطفاً بارزاً في السياسية الخارجية الأميركية من خلال موافقته على إعادة قرار الحرب للكونغرس، بل إن بايدن كان أحد أهم الدافعين في هذا الاتجاه، لذلك يبدو مشروع قرار «سحب تفويض الحرب» من الرئيس بحكم المنتهي بعد موافقة كل من مجلسي النواب والشيوخ عليه، إذ لم يبق سوى توقيع بايدن الذي قد يكون خلال الأيام القليلة المقبلة.

ولكن بغض النظر عن هذا القانون، وفي حال وصل إلى خواتيمه فإنه لن يؤثر بصورة كلية على مسألة أن يكون الرئيس الأميركي قادراً على اتخاذ قرار الحرب وفرضه على الكونغرس، إذ إن أحد مواد الدستور الأميركي تكفل له ذلك.

لنعد بالتاريخ إلى منتصف أربعينيات القرن الماضي -خلال الحرب العالمية الثانية- عندما كان الكونغرس هو من يسيطر على قرار الحرب، ولم يمنع روزفلت من دخول هذه الحرب.. ولم يستطع منع هاري ترومان شن حرب على كوريا.. والحال نفسه بالنسبة لغزو كمبوديا من ريتشارد نيكسون.. واستمر الكونغرس يخسر من سلطاته العسكرية لمصلحة الرئيس، حتى تخلى عنها لجورج بوش الأب في تسعينيات القرن الماضي.. ولم يكن هذا التخلي فقط عن قرار الحرب بل حتى عن قرار شن الهجمات وعمليات الاغتيال واستهداف الشخصيات التي تعتبرها واشنطن معادية، إلى جانب الحروب الاقتصادية.. بايدن نفسه لجأ إلى شن هجمات من دون الرجوع إلى الكونغرس ولا إلى طلب موافقته، مسوغاً ذلك بأنه للدفاع عن القوات الأميركية وبالتالي فإنه لا يحتاج إلى إذن من الكونغرس.

كل ما سبق لا يعني إلا شيئاً واحداً أن الولايات المتحدة مستمرة تهديداً رئيسياً للدول، وبالتالي حروبها مستمرة، أياً كان من يحكمها، وأياً كان من يتخذ قرار الحرب فيها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار