بعضُ التواريخ لا يمكن أن يُنسى لأن أحداثه تحفر حفراً عميقاً في الذاكرة، بما يحمله من انعطافات تشبه فعل الطّبيعة في ثوَرانها حين تشقّ جبلاً أو تزيح صحراء أو تذيب جليداً!
كان يوماً، بداياتِ عام 2012 بما حملته أيامٌ سبقت من سفك الدم البريء وهياج تتار العصر في أرض البلد، وفيه بادر الشبان إلى نسج أطول علمٍ في التاريخ ليرفعوه في وجه الجريمة والخيانة ويتوّجوا الوطن بنجمتيه الخضراوين، وهناك، على أوتوستراد المزة طال وقوفي قبل أن يمتد العلم، محمولاً بأيدي ناسجيه، عدة كيلومترات، أتأمل الناسَ في الزّحام الذي كان منسوبه يعلو كل دقيقة وفيه تجلّت سورية بقضّها وقضيضها.. مسنّين. شباناً. يافعين. أطفالاً. رجالاً. نساء. أزياء متنوعة فيها الفاخر الأنيق والمتواضع البسيط والأبسط من البسيط ، فيها العصري وفيها المحافِظ ، حتى خرجت من بين الجموع سيدة خمسينية محجّبة بلا مساحيقِ تجميل، اللّهمّ إلا قطرات العرق وإحمرار الوجنتين من شمس الضحى الحارة والبسمة العريضة وهي توزع قوارير الماء البارد وتسأل بالاسم عن فلانة، وإذ استفسرتُ لماذا تخصُّ البعض باهتمامها وكرمها قدّمت لي قارورة وهي تسرد بصوتٍ مبحوح من ترداد النشيد الوطني الذي لم يتوقّف عن البث: أنا مسؤولة عن جاراتي وصديقاتي اللواتي رافقتُهن إلى هذه الاحتفالية! نحن كثيرات ولم أشأ أن نأتي بالمواصلات، متفرّقات، لذلك استأجرتُ «سرفيساً» وجئنا جماعة!
ذكرَت السيدة الحيَّ الجنوبيّ الفقير الذي جاءت منه مع جاراتها لتردّ، كما قالت، كيد الخونة إلى نحورهم إذ أغضبها غضباً شديداً أن تجد زمرةً منهم على إحدى الفضائيات العميلة يشتمون سورية ويتوعدون نظامها ويعِدُ ون المحاور بتحريرها منه، ولأنها لم تستطع صفعَهم جاءت للاحتفاء بالعلَم ولإفهام العالم أن سورية عصية على هؤلاء الخونة ومشغّليهم!
مرّت عشر سنوات، مرّ عَقدٌ من الزمن، جرى ماءٌ كثير، سقى وجرَف، سار وانعطف، لكن السيدة البسيطة الصادقة لم تغادر خاطري، كنت أراها تسعى على خبز أولادها أمام كوّة الفرن وتنتظر حصّتها من المواد الغذائية المدعومة ورسالة الغاز وتضبط أعمالها المنزلية على تقنين الكهرباء وتدوّر دخلَها المتواضع ليكفي مصاريفها بعد الغلاء والتضخّم الذي ضرب قدرات الشريحة المتوسّطة، بَلْهَ الفقيرة، وإنني لأراها اليوم رؤية العين تفرّغ نفسها يوم انتخاب رئيس الجمهورية لوعيها التام أنها تمثل شريحة واسعة عاشت محمية من الموت والتهجير والذلّ، وهي رهنُ الأمل، وبات الأمل اليوم بالعمل! لا شيء للنهوض إلا العمل!