ما يدرك بالعقل ولا تراه العين ..!
أنظر في قلبي .. أبحث عن المعنى وأقفز من فوق البناء اللغوي وألتقط لحظة تعبر في سماء مخيلتي .. (جدران الخوف .. أيها الراحل العزيز .. تكسرت).
كلمات لا تتجاوز أصابع اليد .. لكنها قد تختصر مطبوعة نبتت على ضفاف العواطف وسقاها القلب من فكره فولدت كلحن صوفي أو كقصيدة هايكو ..ترى ما الفرق ؟
بمقارنة قصائد الهايكو مع الشعر الصوفي نلمس في الأول أن الجمال الحسي يدرك بالبصر والسمع وسائر الحواس، أمّا في الثاني فيعتبر الجمال الأسمى يدرك بالعقل والقلب، ويرى أنّ القلب أشدّ إدراكاً من العين، لأنّ القلب يدرك الأمور الإلهية وإنّ المثل الأعلى للجمال لدى الصوفية هو الله الخالق ، فهم أصحاب القلوب والمواهب الإلهية يلتقيان في قمة الجمال والطبيعة والحق والتأمل ثم يأتي الذوبان في اللحظة، وفي حالة من الرقي والتسامي الروحي يكون الإبداع وتكون القصيدة « الهايكو».
لا يزال عليك صديقي أن تقرأ الكثير حول «الهايكو» لتعيش حياة اللحظة وتشعر بجمال تلك الثقافة اليابانية التي لمست فيها روحاً من الصوفية حيث يتمثل المبدأ الأساسي للشاعر بالارتباط باللحظة وإسقاط التفكير بالماضي أو المستقبل برغم أن هذا الارتباط يختلف إلى حد ما عن تقليد «التأمل »أو «اليوغا »الذي يعتمد مبدأ منع العقل من التفكير لفترة زمنية قصيرة، ففي قصيدة الهايكو، يصبح الارتباط باللحظة الحاضرة يقابله ذوبان بعالم الطبيعة، وذلك بالرصد الكامل للحظة التي تتفاعل فيها الغيوم والطيور والمطر والنباتات وشلالات الماء والشمس والنجوم وغيرها ويتم نقلها بسبعة عشر مقطعاً صوتياً تتوزع على ثلاثة خطوط وكما يراها مؤسسو الهايكو الكبار فهي تكثيف في أقصى مداه، من دون وجود روابط بينها، وهذا ما يتيح للمتلقي أن يملأ تلك الفراغات بتوظيف مخيلته الخاصة.
هذا الشكل الفني الجديد للقصيدة لاقى استحساناً وتجاوباً لدى شعراء الحداثة ومبدعينا في سورية مع وجود اختلاف ربما فرضته اللغة أو طرق التفكير والتأمل لكن الحالة الروحية لقصيدة الهايكو كانت متجاذبة أكثر مع روحانية الشعر الصوفي فالعنصر الأساس لشاعر الهايكو هو التدرب على عيش اللحظة بالذوبان الكلي فيما حوله من عناصر الطبيعة ثم يصبح النظم الشعري عملية شديدة التلقائية تشبه حالة شعراء المتصوفة في نظمهم للشعر بعد الوصول إلى حالة من الثمالة الروحية في الانصهار بالحق.
من هنا جاء التأمل واليوغا الهادفان إلى تحرير العقل من قيود الانشغال الذهني المتواصل بالعالم الخارجي عبر التدرب على قطع سلسلة التفكير به، وعيش لحظة الحاضر خالية من الارتباط بالماضي أو بالمستقبل، لكن قصيدة الهايكو حققت قفزة كبيرة حين دعت إلى أن يعيش المرء في كل لحظة الحياة والفناء معاً، فهو في كل لحظة يولد وفي كل لحظة ينطفئ، والطريق إلى تحقيقه يأتي عبر الذوبان في الطبيعة من خلال الفنون سواء في الموسيقا أو الرسم أو الشعر وغيره، ليعطي دفعة كبيرة لتطوره في مجالات حياتية عدة، صاغت في الأخير طرائق التفكير والإبداع في اليابان.