الحبر الأعظم والجرائم العظمى

خورخي ماريو بيرجيليو، أو البابا فرنسيس، أول شخص يتسلم منصب الحبر الأعظم من خارج أوروبا منذ البابا غريغوري السوري الأصل (731– 741م) كما أنه أول بابا من العالم الجديد.

تاريخه الشخصي يرتبط بالإصلاح في الكنيسة الكاثوليكية منذ أن تولى منصب أسقف بيونس آيريس، بل إن البعض يربطه بلاهوت التحرير الذي ارتبط بالثورات الشعبية ضد الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية، كما اشتهر بتصريحه بضرورة اعتذار الكنيسة الكاثوليكية في الأرجنتين عن دعمها وتغاضيها عن جرائم النظام العسكري.

لهذه الأسباب مجتمعة كان انتخاب البابا فرنسيس حدثاً مميزاً في فترة شهد العالم فيها مجموعة من الأحداث حاولت تقديم العالم الغربي، ما بعد الانهيار المالي، بحلة النظام الرأسمالي الإنساني المدافع عن حقوق الإنسان وحامل رسالة الديمقراطية. وفي هذا السياق كان انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة، وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ليكون أول رئيس دولة تصدر بحقه مثل هذه المذكرة وهو في منصبه.

توجت الرأسمالية العالمية نهوضها الإنساني بحملة لنشر الديمقراطية في العالم، كان نصيب منطقتنا منها ما عرف بـ”الربيع العربي”، الذي ارتكبت خلاله أبشع الجرائم بحق الشعوب والدول، وبلغ ضحاياه الملايين من المدنيين الأبرياء، ما بين قتيل وجريح ومشرد.

جاء انتخاب البابا فرنسيس في عام 2013 ليحمل شيئاً من الأمل للشعوب، فتاريخ البابا الشخصي كان يشير إلى أنه سيقف إلى جانب الشعوب المقهورة في العالم، وأنه لن يقع في الخطأ الأرجنتيني مرة أخرى، وسوف يندد بالجرائم التي ترتكبها الولايات المتحدة وأوروبا في العراق وسورية وليبيا واليمن وبوليفيا وفنزويلا وإيران.

لكن البابا التزم الصمت، فلم يغسل أقدام أطفال اليمن الذين فتك بهم الجوع والصواريخ والكوليرا ومنع الدواء، رغم أنه كان أول بابا يغسل أقدام مسلمين ونساء في استعادة للتقليد الكاثوليكي في «خميس الأسرار».

اكتفى البابا بعظة هنا وأخرى هناك، وحاول أن ينزع صفة الاستغلال والتعسف عن الحملة الاستعمارية الرأسمالية الحديثة، وتحويلها إلى حالة صراع بين الأديان.

عبّر البابا عن هذا السياق من خلال الصلاة الجماعية (العابرة للأديان) في الفاتيكان، والتي جمعت المسلمين والمسيحيين واليهود.

وعاد البابا ليتناول الجرائم التي ترتكب ضد الشعب السوري، لكن وللعجب من زاوية القلق على مصير الإرهابيين في دوما وإدلب، رغم أن المسيحيين نالهم جزء كبير منها، ورغم أن هؤلاء الإرهابيين ينتمون إلى تنظيم (جبهة النصرة) الذي صُنّف كتنظيم إرهابي في الأمم المتحدة.

ما الذي حدث، ولماذا.. هل فقد البابا ثوريته وتوجهاته الإنسانية والإصلاحية؟

في الحقيقة لا أملك إجابة على هذا السؤال، رغم أن كل طروحات البابا الدينية تشير إلى أنه قدّم آراء واجتهادات في العديد من القضايا تعد الأكثر ثورية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. لكن عندما يأتي الأمر إلى السياسة تشكل مواقف البابا خيبة أمل حقيقية.

لعل الإجابة تكمن في مكان آخر، ولا تتعلق نهائياً بشخصية البابا قدر ارتباطها بموقع الكرسي الرسولي في الصراعات السياسية الدولية. وهو دور تاريخي نستطيع أن نصفه بأنه كان دائماً أقرب إلى التيار المحافظ اليميني داخل الدول الرأسمالية، وتميّز بعدائه السافر للحركات الثورية تحت شعار محاربة الشيوعية والإلحاد.

تبدّى هذا الدور بأوضح صوره في موقف البابا يوحنا بولس الثاني من الأوضاع في بولندا، إذ وقف إلى جانب الاحتجاجات التي اندلعت عام 1980 وساهمت في سقوط الحكم الاشتراكي في البلاد، واستمر في دعم دول أوروبا الشرقية في تحولها نحو «الديمقراطية».

الدور نفسه لعبه خليفته البابا بندكت السادس عشر خلال الانهيار المالي الرأسمالي عام 2008 عندما خرج على المؤمنين ليطالبهم بالعودة إلى التقشف والحياة المسيحية البسيطة متجنباً الحديث عن الممارسات الرأسمالية التي أدت إلى فقدان الناس لوظائفهم ومنازلهم، مُحملاً المواطنين عبء الأزمة بدلاً من تحميلها للحكومات الرأسمالية وإجراءاتها.

في السياقات السياسية نفسها أتت زيارة البابا فرانسيس إلى العراق، وهي زيارة كان سيرحب بها العرب والعراقيون لو أنها جاءت في سياق الجرائم التي ارتكبها “ناتو” بحق هذا البلد، ولو أشار فيها قداسته إلى ما يعانيه السوريون واليمنيون من حرب تهجير وإبادة.

لكن الزيارة جاءت في سياق دعوة إلى توحيد أبناء الديانات الإبراهيمية، ولم تكن مصادفة أن تلك الدعوة تزامنت مع المشروع الأميركي للتطبيع مع العدو الصهيوني والذي جاء تحت شعار الاتفاق الإبراهيمي.

حملت زيارة البابا منذ الإعلان عنها مضموناً توراتياً بحتاً، عندما اشتملت على زيارة مدينة أور -الوطن التوراتي للنبي إبراهيم- بعيداً عن الحقائق التاريخية التي تجادل بحدّة بصحة هذا الوطن، إلا أن اعتماد النص التوراتي يحمل دلالات عميقة جداً لا علاقة لها بالتاريخ، وهو ما تجلى بالدعوة لاعتماد أور كموقع لحج ديني لأتباع الديانات الثلاث (الإسلام، المسيحية، اليهودية) في محاولة لتغليف التطبيع مع العدو بغلاف ديني إنساني، وفي تجاوز فج عن أكثر من 70 عاماً من الجرائم الصهيونية بحق العرب عامة، والفلسطينيين خاصة.

في هذا الجزء من العالم ارتكبت الرأسمالية جرائم عظمى، وهي جرائم لا تتعلق بدين محدد، لكنها تتعلق بحقيقية الرأسمالية كقوة ناهبة للشعوب، تسعى لفرض هيمنتها باستخدام القوة الغاشمة، ولا تأبه لحجم الخسائر التي تدفعها الشعوب.

لقد اختار الحبر الأعظم إغماض عينيه عن الجرائم العظمى، وتسويق دعوات وشعارات إنسانية بلهاء، تحمل الضحايا مسؤولية ما يصيبهم، وتعلن براءة المجرمين الحقيقيين.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار