استدارةٌ مكشوفةٌ
لم تكن مفاجئة لنا زيارة رئيس النظام التركي رجب أردوغان للقائد الروحي لحزب “السعادة الإسلامي” المعارض أوغوزهان أصيلتورك في بيته، وما هي إلا استدارة أخرى من استدارات أردوغان التي لا تُعدّ ولا تحصى من أجل الكرسي السياسي.. ولكن هذه الاستدارة لها طعم آخر، وقطعاً لم تأتِ استجابة لتحذيرات أحمد داود أوغلو، الصندوق الأسود لنظام أردوغان ووزير خارجيته ورئيس وزرائه وشريكه المقرّب المحبب سابقاً، وخصمه اللدود حالياً وزعيم أحد أكبر الأحزاب التركية اليوم “المستقبل” الذي خرج عن صمته محذّراً منذراً من استدارة جديدة بـ180 درجة بعد مغازلة “لص حلب” وحزبه “العدالة والتنمية” لحزب “السعادة” بعد شقاق وحرب وصراع استمر زهاء عقدين من الزمن، عندما انشق “العدالة والتنمية” عن حزب السعادة الأم 2001 الذي كان يرأسه آنذاك نجم الدين أربكان الأب الروحي للإسلام السياسي، ومرشد “الإخوانية” الكبرى في تركيا والعالم.
تلميحات أردوغان بإمكانية العودة إلى النظام البرلماني بعد الاجتماع مع عدوه السابق أصيلتورك تطرح ألف سؤال وسؤال، ولكن لماذا؟ وما الغاية؟ وما المراد تحقيقه من هذه الزيارة الصدمة؟ ولماذا في هذا الوقت؟ ولمن الرسالة؟.. الجواب يأتي على ألسنة رفاق أردوغان بالأمس.. ليس حباً بالبرلماني.. وليس كرهاً بالرئاسي، بعد أن قاتل أردوغان وعمل المستحيل لتحقيقه.. ولكن النظام الرئاسي يتطلب من أردوغان أن يحصل على 51% من أصوات الناخبين، وهذا ما يخشاه رئيس النظام التركي وما يفتقده في هذه الأيام، لأنه ليس لديه ثقة بالحصول عليه رغم تحالفه مع الحزب القومي سيئ الصيت والسمعة والتاريخ، والمكروه من كل الأحزاب التركية والمرفوض من الشارع التركي، بما فيها “المستقبل” في حين إذا عاد أردوغان إلى النظام البرلماني الذي كان سائداً فيكفيه أقل من 30%، وبهذا يضمن أن يبقى في الترتيب الأول، وهذا سرّ زيارته لـ«السعادة»، وهو بذلك يكون قد تحلل من كل وصايات حليفه الإستراتيجي القومي؟ وهذا ما يصبو ويتوق إليه أردوغان.
أما لماذا في هذا التوقيت؟ فلأن استطلاعات الرأي التركية أشارت إلى تراجع شعبية أردوغان وحزبه وحليفه القومي بعد الاتهامات المتبادلة بينهما.. بسبب سياسات أردوغان العدائية التوسعية الاحتلالية مع جيرانه وفي “الأحمر” و”المتوسط”، وكل هذا جاء متزامناً أيضاً مع اعتراف آخر ووصمة عار أخرى على جبين أردوغان فجّرها نوري جوكهان يوزكير أحد الضباط الكبار لجيش النظام التركي والمقيم في أوكرانيا بمقابلة مع صحيفة «استرانا» الأوكرانية نقلت صحيفة «زمان» التركية مقتطفات عن مجرياتها، حيث يعترف فيها يوزكير أنه أشرف بنفسه على تزويد التنظيمات الإرهابية في سورية منذ العام 2012 بكل أنواع الأسلحة، مقراً بأنه كان يتم إرسال أنظمة الصواريخ المحمولة والمتفجرات الدقيقة عبر صناديق وفوقها الخضراوات والفاكهة.. وكانت مشيخة قطر تتولى “الدفع والتمويل”.. وهذا يتم برعاية وتنفيذ من المخابرات التركية.. وهذا أيضاً ترافق مع مصادقة الجمعية العامة للبرلمان التركي على مذكرة رئاسية حول تمديد فترة مهام القوات لدى جيش النظام التركي في خليج عدن ومياه الصومال وبحر العرب.. وفي سورية والعراق وليبيا وإقليم كرباخ لمدة عام إضافي، وهذا ما زاد الطين بلة.
إذاً حركة بهلوانية أخرى ومناورة أخرى جديدة واستدارة أخرى.. والتفاف آخر لأردوغان الذي يجيد اللعب على كل الحبال وفي الوقت الضائع.. لأنه يشعر أن بيته أمسى «أوهن من بيت العنكبوت»، لذا يهرب إلى الخلف لفتح قنوات مع أحزاب أخرى صغيرة في محاولة منه لإغوائها بالاشتراك معه من أجل الهروب إلى الأمام والإعلان عن انتخابات جديدة على الرغم من أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة مقررة في خريف 2023، ولكن أردوغان يسابق الزمن بعد أن شعر أن أيامه السياسية أوشكت على المغيب بسبب تراجع شعبية حزبه والوضع الاقتصادي المزري، وسقوط الليرة إلى الحضيض، وارتفاع معدلات البطالة، واستقالة وزير ماليته وصهره «البيرق»، وانهيار التدابير الوقائية في مواجهة “كورونا” وانكشاف نياته الخبيثة حتى مع رفاق الأمس، وتراجع التحالف مع مشيخة قطر، وانتهاء شهر العسل مع روسيا، والكباش مع أمريكا والاتحاد الأوروبي و”ناتو”، والإفلاس من الملف الليبي بعد التوافقات الأخيرة، وسحب الملف “الأرميني- الأذربيجاني” من يده، وسقوط ورقة التوت عن كل استداراته، وانحسار التيار الإخونجي في تونس ومصر وليبيا وفي كل دول العالم.. كل هذا دفع أردوغان لعقد تحالفات مع أعداء الأمس لإطالة عمره السياسي.
ولكن استداراته باتت مكشوفة ولولبية وأمست مفضوحة لأقرب المقربين إليه من أهل بيته وعناصر حزبه، بأنه رضيع الإيديولوجيا «الإخونجية» اللاعهد لها، وأقل ما يقال فيه أنه يعاني من عقد سياسية وتاريخية واستعلائية و«عثمانية» ويلهث متمنياً صنع تاريخ جديد كاذب يعيد للأتراك أمجاد «السلاطين»، ولكنه، وبفضل سياسات نظامه الإرهابي تحولت أنقرة في عصره من «صفر مشاكل» مع الجوار كما كان يدّعي إلى إعلان الحرب على الجميع لنشر المعتقدات الإسلاموية في المنطقة العربية، ولكن ليعلم “المرشد” وعرّاب الحرب على سورية ورأس حربتها وأركان نظامه، ومموله القطري، وسيّده الأمريكي والصهيوني؛ أن أجداده بقوا في سورية 400 سنة وعاثوا فساداً وخراباً ونهباً وتنكيلاً وتتريكاً، ولكنهم اندحروا يجرّون أذيال الخيبة والهزيمة، وهذا مصير حفيدهم أردوغان مهما تلوّن وكيفما غيّر من جلده، وأينما استدار.. السقوط قادم وحتمي؛ ومن البوابة السورية.