«تتفوق التراجيديا السورية على ما سواها من تراجيديات، مع فارق مهم أنه ليس هناك من يُدوِّنها كما فعل هوميروس واسخيليوس وسوفوكليس في التراجيديا الإغريقية، أو كما أبدع ويليام شيكسبير في تراجيدياته الإنسانية، إذا استثنينا بعض إنجازات مُبدعينا الذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.
الأحداث، مصائر البشر، دمار الحجر، الخراب النفسي، والانغماس بالهم والأسى،… كلُّها تمتلك المقومات والركائز الأساسية لبناء تراجيديات من النوع الممتاز، ولا ينقصها إلا عين متوثِّبة، وقلم خلّاق، وروح قادرة على تدوير الواقع إبداعياً»، بعدما أنهى الأستاذ الجامعي محاضرته تلك، ذهب ليقبض راتبه، وداخ السبع دوخات من أجل أن يحظى بصراف «شغَّال»، ولأنه كرَّر إدخال بطاقته أكثر من ثلاث مرات وفي كل منها تُشهر الشاشة أن الجهاز خارج الخدمة، وترجوه التوجه إلى صراف آخر، لم يستطع أن يتهنّى بمعاشه في ذاك اليوم، وخشية أن يتأخر أكثر على طُلّابه في المعهد الخاص الذي يُحاضر فيه عن خصائص الفعل الدرامي، مُستشهداً بأفعال الأبطال التراجيديين، أمثال أوديب، وهاملت، وعطيل، والمناخات النفسية لهم وللدسَّاس «ياغو»، واللاإنساني «شايلوك» وغيرهم، استقل تاكسي كلَّفته «هديك الحسبة»، خاصةً أن السائق لا يلتزم بتعرفة محددة، ولا يعترف بالعداد من أساسه.
المهم أنه بعد أن أنهى دروسه عاد مساءً إلى بيته مُنهكاً، ليكتشف أن الكهرباء مقطوعة منذ ثماني ساعات، وتالياً مياه الحمَّام غير حامية، وأن أسطوانة الغاز أعلنت إفلاسها خلال طهو زوجته لطعام الغداء قبل أن يصل إلى مرحلة النضج، ومن دون أن يمتلك أخرى ليبدلها، فما كان منه إلا أن طلب مساعدة من أحد الأصدقاء الذي زوّده بواحدة، فكان عليه أن «ينتعها» إلى الطابق الثالث حيث يقيم، ويركبها علَّه يحظى بلقمة تسد رمقه، بعدما انهدّ حيله، ولأنه لم يعرف بعدم توفر «جلدات» غاز لديهم، عاود النزول لشرائها، وعاد لصعود الدرجات السبعين. وصل الاسطوانة بالفرن، وبينما واصلت زوجته عملية الطهو، بدأ يُتمتم في دخيلته «أحاضر عن التراجيديا وأفعال أبطالها، وأنا أعيش تراجيديا «المرمطة والشنشطة» بأبهى تجلياتها»، وبعد تنهيدة طويلة سمعتها زوجته قال بصوت ينضح بالمعاناة والأسى: «يا الله.. أسدل الستار»..