«واحد بعشرة..»
لم أُفاجأ بالأجر الذي تقاضاه (الكندرجي) من زميلي عندما أصلح حذاءه.. فهو يتلاءم والأسعار الرائجة ويُمكّنه من سداد فاتورة العيش الباهظة، لكن ما أحزنني أن إصلاح ذلك الحذاء بـ«درزة» لم تستغرق منه الدقيقتين على ماكينة الخياطة المتوضعة تحت «شادر» على الرصيف (أي بلا أجور محل ونفقات أخرى) استدعى دفع ألف ليرة ومن الزبون الذي سبقه مثلها بينما كثيرون على الدور.
وهنا نجد أن أجر بضع دقائق من وقت ذلك المهني يساوي أعلى راتب لموظف ولو كان من الفئة الأولى عن يوم كامل من العمل مع كل ما يتطلبه من جهد والتزام ومسؤولية واحتمال المساءلة إذا حدث خطأ أو تقصير، وبحساب أوسع للجدوى من مهنة كهذه -مع كل التقدير للعاملين فيها- التي لا تحتاج إلى شهادات جامعية أو دراسات عليا حتى تتم مزاولتها، وما تتطلبه لا يتعدى صبر أيام محدودة حتى يتعلم الراغب فيها «درزة» الماكينة ودق المسامير واستعمال المادة اللاصقة, فإن مردودها يزيد على مجموع أجر عشرة موظفين جامعيين.
النقاش الذي دار بعد مغادرتنا وزميلي لم يخلُ من الدعابة الساخرة, ليس تجاه ذلك العمل الذي يؤمن العيش الكريم لصاحبه ضمن ظروفنا القاسية, بل حول شهاداتنا التي لم تعد تحقق من المردود ما يعادل أجر صبي عند أي صاحب مهنة أو حرفة، ولا أخفي أن كلينا تمنى لو كان مكان مهني الأحذية أو غيره في مهن أخرى لكونها غير مقيدة الأجور وتواكب الرائج من الأسعار وأكثر من دون أي مرجعيات تتحكم بها أو ضوابط تحدد سقفاً لها، وعلى المستفيدين منها الامتثال للدفع بلا أي اعتراض في ظل ضغط الطلب على خدماتها.
المشكلة أن الشهادة أصبحت عبئاً ثقيلاً على صاحبها الموظف، فهي من جهة لا تحقق له الدخل الذي يمكنه من سداد الحدّ الأدنى من ضروريات العيش ومن جهة أخرى تسبب له الحرج لدى عزمه على مزاولة أي مهنة حرة لا تتواءم معها، وهنا نكررها للمرة الألف بأنه لا بد من إنعاش دخل الموظفين وتحسينه ليس للمستوى الذي تستحقه الشهادات التي يحملونها بل على الأقل لتساوي أجر مهني الأحذية ليتمكنوا من رفع البؤس الحاصل من ضنك العيش.