سأعلنها، ومن الآخر، بعد ثلاثة أسابيع من الحجر الصحي، بت أحمل أطناناً من الأشواق والحنين لما لم يخطر في بالي أنني سأشتاق إليه يوماً. ببساطة، صرت مشتاقاً للمطبات الستين بين بيتي ومكان عملي ضمن مسافة لا تزيد عن الخمس عشرة كيلو متراً، ولشرطي المرور يسجل مخالفات زبائنه على المنعطفات وتحت الجسور ليملأ دفتر مخالفاته وأيضاً لزحمة الحواجز وتفتيش «الطبّونات» .
وفوق ذلك بتُّ مشتاقاً لسائقي السرافيس وباصات النقل الداخلي، وللرُّكَّابِ المحشورين على هيئة «مخلَّل باذنجان»، ولِهَفْهَفَةِ ثاني أوكسيد الكربون من «الإشطمانات»، ولِحُفَرِ الطُّرقات وأغطية «الريجارات» المفتوحة، وللبسطات تملأ الأرصفة بكل شيء من البابوج للطربوش. ومشتاق مِلْءَ جوارحي لعودة رؤية طوابير المنتظرين على الصرافات الآلية والمخابز ومراكز خدمة المواطن، وأرغب بتقبيل حوافّ «النافذة الواحدة» حافّةً حافّة، وكُلِّي شوق لصخب المقهى، وأصوات النرد وخصامات مشجعي الفرق الرياضية المتنافسة، كما أحنّ لصراخ الباعة الجوالين وبضاعتهم المغشوشة، وشوقي كبير حتى لحضور العروض المسرحية البائسة، والسينمائية المتهالكة، ومعارض الفن التشكيلي المتهافتة، ومشتاق للمجاملات الآثمة، والابتسامات المخادعة، وحتى القُبَل الغاشَّة بات لها مساحة في اشتياقاتي المديدة، وأيضاً شوقي كبير لتلك السيدة العجوز في المركز الثقافي العربي بأبي رمانة وأسئلتها ونقاشاتها البائتة والموغلة في الهباء كامل التكوين ولو كانت المحاضرة عما بعد الحداثة.
تخيَّلوا أنني مشتاق للنميمة بين الموظفات، ووساوس الموظفين، وقلق أصحاب المراتب الوظيفية، ولـ«وشِّيشة» كراجات البولمان يصنعون من البحر طحينة، ولخلافات الخمسين ليرة المهترئة وأخواتها، ولرجاءات المتسولين في شوارع المدينة وحججهم الكاذبة، ولشجارات أصحاب المحلات وادعاءات سرقة الزبائن، واشتقت أيضاً لزيارة “حوش بلاش” حيث علاج جميع أعطال السيارات «المصتعصية» كما كتب على إحدى اللافتات، كما أمتلئ حنيناً لمتابعة المُعاكسات الوقحة، والغزل الفاضح على أعين الشهود، وصراعات الدِّيكة العُشَّاق وغير ذلك الكثير الكثير.. لذا سأقولها لكم بكامل جوارحي: أنا مشتاق لحياتي.