عَدَّل من جلسته قليلاً، وتَحيَّنَ الفرصة المناسبة لمُداخلته عن الوضع المتردِّي وحُزنه العميق عليه، مُتفوِّهاً بالعبارات التالية: «أكثر ما يُزعجني هم أولئك المُستَثْقِفون الذين يتحدَّثون عن بيتهوفن وهم لم يُشاهدوا أياً من لوحاته». هنا معظم الحاضرين كَظَمَ ضحكته إلا «أبو سعيد» أطلق العنان لقهقهاته التي ارتجت لها أركان المكان كله، وبين قهقهة وأخرى كانت تخرج من فمه بضع كلمات: «قُلتَ لي لوحاتِه»، ثم قهقهات طويلة ليعود «ومنزعج أيضاً»، ثم قهقهات تليها «ومُستَثْقِفون»، وهكذا إلى أن تمالك نفسه، حينها استلم زمان الحديث قائلاً: «مرةً تعرَّفت إلى شخص أصرَّ أن يُسمعني بعض قصائده، وفعلاً بدّأ الإلقاء بصوتٍ عالٍ: (قلبُها تُفّاحةٌ وأنا السُّقوط.. عيناها جنّةٌ وأنا الهبوط.. وبين نيوتن وآدم سأتحمَّل وحدي كلّ الضغوط). وعندما سألته عن تصنيف هذه القصيدة العصماء، أجابني بكل ثقة: إنها قصيدة ومضة، والدليل أن كل جملة ستومض في رأسي صورة لها».
وما إن انتهى «أبو سعيد» من سرده حتى عادت إليه حالة القهقهة التي تتخللها بعض الكلمات: «مُستَثْقِف» هههههههه، «مُستشعِر» ههههههههههه، «مُستَفعل» ههههههههه، وهنا تذكَّر قصة رواها لنا أيضاً عن رجلٍ يعشق اللغة العربية، وفي الوقت ذاته يحمل قضيته الوطنية أينما ذهب، وبوصلتها فلسطين كما كان يُكرر دائماً، ولا يتخلَّى عنها مهما جار عليه الزمن، لكنه بعدما عايش النكسة والنكبة وأوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد والآن «صفقة القرن»، بات يسير في الشارع، واضعاً «الكفّية» حول عنقه، ويُمسك بطرفيها، وبأعلى صوته يقول: مُستفعِلُنْ فاعلُنْ مُستفعِلُنْ فاعلُنْ.. إن البسيط لديه يُبْسَطُ الأملُ.. مُستفعِلُنْ فاعلُنْ مُستفعِلُنْ فاعلُنْ..
وبعدما شعر «أبو سعيد» بغصة عميقة في حلقه، أراد أن يُخفِّف وطء الحكاية الأخيرة على سامعيه، فأدار الحديث مرَّةً أخرى إلى ذاك المُستثقِف سائلاً إياه: ما كانت أجمل لوحة رأيتها لبيتهوفن؟ وفَقَع قهقهة مكتومة تخللتها كلمة «مُستفعِلٌ» عدة مرات.