الأسئلة البعيدة لاتزال تتردد حارة وطازجة.. المسرح السوري إلى انحسار.. أزمة على كلّ الاتجاهات وندرة النص كانت المزمنة

تحقيق: علي الرّاعي:

منذ البداية؛ بدأ المسرح في سورية بمحنة.. سورية التي كانت سبّاقة بين الدول العربية التي أوجدت مسرحاً أو على الأقل توفرت لديها إرهاصات مسرحية؛ وبداية المحنة كانت في عدم توفر النص المسرحي المحلي، وخلال مسيرة الحركة المسرحية السورية بقي النص المحلي نادراً، واليوم لو عددنا من يكتبون النص المسرحي في سورية، فربما لا نتذكر أكثر من عدد أصابع اليدين، وهنا نذكر أن مؤسس المسرح السوري، أو على الأقل من رواده الأوائل؛ كان أبو خليل القباني خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان أول نص تصدى لإخراجه أبو خليل مسرحياً؛ هو نص “البخيل” للفرنسي موليير ومن ثم لتحرق قوى الظلام العثمانية مسرح أبو خليل القباني وتجعله رماداً، وليفر الرجل بموهبته إلى القاهرة..

بداية مأزومة
بمعنى منذ البداية؛ ولد المسرح السوري مأزوماً سواء لجهة عدم توفر النص المحلي، أم لجهة عدم توفر منابر العرض، ومنذ تلك التجربة البعيدة لاتزال أسئلة المسرح حارة وطازجة رغم قلة التعديل فيها، بل تبدو هي نفسها تتكرر وتتردد عبر تتالي العقود: هل تضيق مساحة المسرح في سورية؟؟ هل المسرح في سورية يبدو متنوعاً، أم أنه يُقدّم وكأنه من مُحترفٍ واحد؟ أين تكمن محنة المسرح السوري: في ندرة الممثل النجم، أم في عدم توفر النص المسرحي المحلي، أم في الإخراج المُتمكن، أم في منبر العرض المسرحي؟
أسئلة كثيرة من هذا النوع، لاتزال تُطرح منذ عقود طويلة، ولاتزال وإن توفرت الإجابة، غير أنّ الحلول تبدو بعيدة، لدرجة الخذلان، ومن ثم تبقى الأسئلة حارة رغم قدمها.. ببساطة لأن الحلول لم يأتِ وقتها، والمُحزن أنه وخلال طرح الأسئلة؛ فقد أمسى المسرح في العالم يُعرض في أزمنة ما بعد الحداثة، فيما مسرحنا لايزال واقفاً أو مُعطّلاً عند طرح الأسئلة..

مساراً ومصيراً
يستعرض الناقد المسرحي جوان جان مسيرة المسرح السوري، وخلال عرض ذلك المسار يقرأ لنا مصيره عبر إشارات كثيرة، لاسيما في ندرة النص المسرحي، حتى أن المشتغلين في النصوص المسرحية الأولى كانوا غير متخصصين مسرحياً، وإنما جاؤوا من خلفية أدبية، أما كتّاب قصة قصيرة، أو رواية، أو قام البعض بتوليف النصوص الأدبية –قصة ورواية– مسرحياً كما فعل عبد العزيز هلال في نص “أسعد الوراق” من مجموعة “الله والفقر” للأديب صدقي إسماعيل، ويبدو أن هذا النص كان محظوظاً في التناول، فإضافة للنص القصصي، تمّ مسرحته، كما تمّ تلفزته أيضاً عبر كتابته سباعية تلفزيونية أولاً، ومن ثمّ إعادة كتابته مسلسلاً وتقديمه عبر ثلاثين حلقة.

جوان جان: الانعطافة الأهم في تاريخ المسرح السوري كانت فعلياً مع سنة 1960م

يُركز الناقد جان على الانعطافة الأهم في تاريخ المسرح السوري، والتي تبدأ فعلياً مع سنة 1960م، وهي سنة تأسيس المسرح القومي في سورية تيمناً بنظيره القومي في القاهرة، وكان المسرح في سورية قبل ذلك عبارة عن مُبادرات فردية يقوم بها متحمسون لتحريك خشبة المسرح، أو تجمعات مسرحية غالباً ما تجمع في اهتماماتها أكثر من نشاط إبداعي.. غير أن تأسيس المسرح القومي الذي يتبع وزارة الثقافة السورية كان له أن حدد ملامح المسرح السوري، وحتى مصيره.. والذي كانت أولى نصوصه التي تمت مسرحتها شبيهة بما قام به أبو خليل القباني، وذلك في اعتماده نص أجنبي لتجسيده على خشبة المسرح في سورية، فقد كان نص “براكساجورا” لأرستوفانس، أخرجه الراحل رفيق الصبّان؛ أول عمل مسرحي يتصدى المسرح القومي لتقديمه، وكان أول نص عربي لكاتب المصري هو محمود تيمور نص “المزيفون” من إخراج نهاد قلعي، وإلى سنة 1966، حتى كان أول نص محلي سوري، وهو “البيت الصاخب” للكاتب وليد مدفعي، وكان من تصدى لإخراجه الفنان سليم صبري..
وفي تلك الفترة –الستينيات- التي يعتبرها النقاد؛ إنها كانت ذهبية في الحركة المسرحية السورية، حيث ظهر عدد من المخرجين السوريين: أسعد فضة، سليمان قطاية، أحمد قنوع، خضر الشعار، عبد اللطيف فتحي، وآخرون..كما ظهر عدد من الكتاب المسرحيين: علي كنعان، علي عقلة عرسان، حكمت محسن، وغيرهم، وهذا ما تبلور في سبعينات القرن الماضي أكثر مع الإشارة إلى ظاهرة الكاتب – المخرج منذ تلك البداية، وكان ظهر خلال تلك المرحلة: حسن عويتي، محمود خضور، فواز الساجر، وحسن إدلبي كمخرجين، فيما ظهر كتاباً كل من: محمد الماغوط، مصطفى الحلاج، سعد الله ونوس، رياض عصمت، ممدوح عدوان، نذير العظمة..وبرأي جان؛ إنه مع إطلالة عقدي الستينات والسبعينات، أخذت ظاهرة النص المسرحي بالتبلور وذلك بالاستيعاب العميق لتجارب العقود المنصرمة من عمر المسرح السوري والاستفادة منها للانطلاق صوب المستقبل

فقد واكب النص المسرحي الحياة السياسية والاجتماعية، وميزة تلك الأعمال كما يراها الباحث؛ هي الاعتناء بالهم السياسي، والعودة دائماً لحكايات الماضي كخيار له الأفضلية، سواء الحكايات ذات الجذور التاريخية، وحتى القصص التي لا مصدر لصحتها، تلك العروض التي كانت تُثير جدلاً؛ حول حق الكاتب بالتحوير في تناول الأحداث وعمليات الإسقاط لخدمة مقولة مُعاصرة..

انحدار الثمانينيات
وفي رصده للمسار المسرحي؛ يُذكّر جوان بعدد من المخرجين شهدت الثمانينيات نشاطهم، منهم: وليد قوتلي، نائلة الأطرش، مانويل جيجي، يوسف حنّا، جهاد سعد، هشام كفارنة وغيرهم.. وازى ذلك بعض الكتّاب أمثال: وليد إخلاصي، أديب النحوي، سعيد حورانية، وعبد الفتاح قلعجي..وبتقدير جوان جان، لم يستمر المسرح السوري في حركته التصاعدية، وإنما اتجه انحداراً، وكان من جملة خطوات الانحدار: جنوح عدد كبير من المخرجين باتجاه النص المُترجم، وتعقيد نشر النصوص المسرحية في كتاب، الأمر الذي فتح الباب باتجاه الكتابة التلفزيونية.. غير أنّ نكسة الثمانينيات عوضتّها بعض الشيء مرحلة التسعينيات حيث ستنحسر أيضاً أسماء الكتّاب الذين يكتبون للمسرح، بل أن ميزة هذا العقد؛ كان فقره في طرح الأسماء الجديدة على صعيد الكتابة المسرحية، بعكس الإخراج – كما يرى صاحب الطوفان- رغم تراجع الأسماء التي كانت مسيطرة على ساحة الإخراج المسرحي لصالح الأسماء الجديدة: أيمن زيدان، فايز قزق، طلال نصر الدين، عجاج سليم، تامر العربيد، مأمون الخطيب، وآخرون..
ومن جهتي أرى أنّ عقد التسعينيات شكّل المرحلة الذهبية في الإخراج المسرحي السوري لاسيما على صعيد الإخراج والتمثيل، وهو ما لا يوازيه في كتابة النص..رغم ظهور ما يُشبه تفرعات مسرحية عن المسرح القومي مثل: نادي المسرح القومي الذي حاول أن يأخذ الطابع التجريبي، والمسرح الجوال الذي انطلق ببداية قوية بالعمل المميز “الطيب والشرير والجميلة” واضطلع ببطولته كل من نضال سيجري واندريه سكاف.إضافة لما كان يُقدمه المعهد العالي للفنون المسرحية من عروض.
ومنذ مطالع الألفين وحتى اليوم يرى صاحب “خطبة لاذعة ضد رجل جالس” إنها تميزت بالجمع بين أجيال مختلفة على صعيد الإخراج المسرحي وخاضت التجربة بجرأة مع نزوع نحو التجديد على صعيد الشكل المسرحي أمثال: غسان مسعود، مها الصالح، عبد المنعم عمايري، سهير برهوم، كميل أبو صعب وآخرون، وكما في كل مرحلة كان يوازي ذلك قلة من الكتّاب، منهم: موفق مسعود، محمود الجعفوري، طارق مصطفى عدوان، شادي دويعر، عدنان العودة وغيرهم.

سحب البساط
واليوم يبدو المسرح القومي؛ يُشكّل العمود الفقري للمسرح في سورية، لكنه في المقابل، تلاشت ظواهر التجمعات والنوادي المسرحية، فيما المسرح التجاري أو الخاص يبدو هو الآخر قد اضمحل، وكذلك لم تعد الجامعة السورية تُقدم مسرحها، ذلك المسرح الذي قدم للدراما السورية عشرات النجوم، منهم الفنانة فيلدا سمور التي تتحدث عن تجربتها في المسرح الجامعي، فتذكر: إن المسرح الجامعي هو من كان سبيلها للاحتراف، لاسيما وأن من تصدر لإخراج عروضه كانوا من المسرحيين الذين تلقوا تعليمهم خارج سورية، أو من طلاب المراحل الأخيرة في المعهد العالي للفنون المسرحية.. وتُذكّر بالحماس الذي كان سائداً حينها لإنتاج مسرح مُختلف –سبعينيات القرن الماضي- ولتقديم حالة مسرحية سورية، فقد كانت الجامعة السورية تُقدم عرضاً أو عرضين خلال السنة لاسيما لفرقة المسرح الجامعي التي مرت بمراحل لاسيما لجهة المخرجين الذين تصدوا لها، منها مثلاً مرحلة فواز الساجر.. وخلال عروض مهرجان دمشق..شارك المسرح الجامعي كفرقة هواة وحيدة خلال فعالياته وذلك بالعرض المميز “رسول من قرية تاميرا” عن نص للكاتب المصري محمود دياب، وإخراج فواز الساجر..

فيلدا سمور: المسرح اليوم ينحسر وذلك لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال ضعف الأجور

أولوية المسرح
كلُّ ذلك –تُضيف- كانت تجارب قدمتني كمحترفة لعروض المسرح القومي فيما بعد.. غير أنّ التأثير السلبي على الحركة المسرحية السورية، فتراها في الدراما التلفزيونية التي أخذت الممثل على وجه التحديد من المسرح ومن هنا؛ هي تلوم كل ممثل مسرحي يبتعد عن المسرح ولا يعتبره أولوية، ولا يملك روح المغامرة للثبات على خشبة المسرح.. ومن ثمّ فإنّ المسرح اليوم ينحسر، وذلك لأسباب كثيرة، منها على سبيل المثال ضعف الأجور، وعدم وجود مسرح متنوّع، فقد انتهى المسرح الخاص وكذلك الكثير من المظاهر المسرحية الأخرى.ذلك أن المسرح القومي سحب البساط من تحت أقدام المسارح الأخرى كالجامعي والعمالي والشبيبي وغيرها.فالمسرح التجاري –على سبيل المثال- كان هو أساس المسرح في سورية، فقد انطلق على صعيد التجارب والتجمعات حتى تسعينيات القرن الماضي.

اليوم تبدو ظاهرة المسرح الخاص أو التجاري قد تلاشت، وذلك لأكثر من سبب أبرزها غياب الوجوه التي كانت يوماً ما، تشدّ الجمهور للمسرح لاسيما في مظاهر المسرح الشعبي، وسبب الغياب؛ الموت أحياناً، أو الاعتزال، ولم يظهر جيل جديد أو بديل يُكمل مسيرة رواد المسرح الخاص، وإن وجد، فإنّ ظروف العمل تغيرت والتكاليف أصبحت باهظة، ناهيك أن بعض النشاط المسرحي الذي شكّل ظاهرة حينها، بقيت ظاهرة منقطعة انتهت مع غياب العاملين فيها.
ومحنة مسرح الخاص –حسب جوان- أنه أمسى اليوم بلا ذاكرة، وذلك بسبب عدم توثيقه لاسيما تصويره تلفزيونياً على سبيل المثال مسرح “دبابيس” ومهما اختلفت الآراء حول أهميته، فهو مسرح عمل لمدة طويلة جداً قاربت الأربعين عملاً، واليوم لا يوجد مشهد واحد مصوّر عن هذا المسرح.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار