دخل إلى منزل صديقه وكأنَّ مَسَّاً أصابه، فلم يعد يعرف يمينه من شماله، وملامحه تشي بأنه دائخ، ويكاد يفقد توازنه، حتى أن عينيه زائغتان، ويديه تلوحان كأنهما تبحثان عن مُتَّكأ، وما إن سأله صديقه عن حاله، حتى انفجر كبركان وبدأ يقذف حِمَمَه التي تجيش في صدره.
قال: بِربِّك، هل أبدو لك أحد الباكَوات؟ هل هيئتي تُظهر بأنني بيك ابن بيك أو أحد الباشوات أو ابن ذوات؟
أجابه صديقه: ما شاء الله عنك، لكن بالتأكيد لا، لست (بيك) ولا باشا ولا يبدو عليك الجاه نهائياً، لكن لماذا تسأل؟
ردَّ عليه: بعد عشر سنوات من ضنك العيش، والعمل في ثلاث ورديات ((ك))”أَجَلَّك”، قرَّرْت أن أُدَلِّلَ نفسي وأشتري قميصاً وحذاءً، وفعلاً أعجبني قميص ذو قماشةٍ رهيفة وألوانٍ زاهية قد تُخفِّف من لون خِلقتي الناشفة، وكان قياسه مناسباً جداً.
صديقه: جميل.
فأجابه بتوتُّر: أي جميل هذا؟ ما إن سألته عن سعره، حتى قال بتلقائية وبرود: “85 ألفاً”، حينها امتقع وجهي، وتبدَّلت ملامحي، وصِدقاً غَصَصْتُ بريقي، وكدت أقع من طولي، ولم أعرف كيف تمالكت نفسي، واستعدت قليلاً من رباطة جأشي، وسألته: وهل هذا قميص “…. ” أم إنه من مقتنيات المتحف البريطاني مثلاً؟ فما كان منه إلا أن اعتذر بلُطف، داعياً إياي لاختيار محلٍّ آخر، لأنه لا طاقة له على الجَدَل البيزنطي.
حاول صديقه أن يمتص غضبه: لا عليك، الأسعار نار، وما زالت تُفاجئنا باستمرار.
قال له: نار فقط؟ بعد معرفتي بأسعار القمصان، تحدثت لنفسي “بلا قميص بلا بطيخ، سأشتري حذاءً مريحاً فقط”. دخلت إلى أحد المحلات، وغَلَتْ النَّار في عروقي بعدما علمت أن سعر الحذاء الذي اخترته، مع المُراعاة، هو 110 آلاف ليرة تنطح ليرة.
هذه المرة لم أرغب بإزعاج البائع عبر سؤاله: وهل هو حذاء الطنبوري أو إنه الموديل الرجالي من الفردة الضائعة في قصة ساندريلا؟ وكي أستعيد توازني لبست حذائي القديم، وخرجت هارباً من السوق، جَرَيْتُ، وجَرَيْتُ، حتى كاد يهدُّني التعب، فوجدت نفسي أمام محل شاورما، التهمت سندويشة كبيرة، وأحضرت لك واحدة مع علبة عيران حلواناً.
قال له صديقه: على ماذا؟
أجابه: على قميص (..) وحذاء الطنبوري اللذين لم أشترهما.
ثم بدأ يغني بما يشبه البكاء “معوّد على الصدعات قلبي”.
بديع صنيج
25 المشاركات