جدل الجدل
تشرين- ادريس هاني:
أراهن على هذه المساحة العذراء من الدّماغ البشري، فهي متحرّرة رغم كمونها، من هيمنة التفكير الذي يشغل سائر المساحات الأخرى. بات الدّماغ رهينة لخوارزميات محددة، وخاضعاً لبرمجة إمبريالية عصبية. كلّ ما يظهر حتى الآن، أنّ انسداداً فائقاً جعل التفكير في وضعية التكرار والعود الأبدي.
تتورّم المقولات وتطبيقاتها، يعود الفكر إلى الأسر، تنتفض الملكات وتتمزّق ويحصل الشّرخ النكد، فتتشوه العملية الفكرية وتصبح حجاباً ضدّ الواقع. وحدهم الثوريون الحقيقيون من يمتهنون عملية الإنقاذ، خرق الأنساق، تحرير العقل، هذا الذي له تكُلفة كبيرة يصعب على العبيد استيعابها، لأنّهم عبيد لمقولات يصنعها السّادة، ويفرضونها ضمن الجدل الكبير، جدل الصراع بين السادة والعبيد، لكن تظل هناك مندوحة أمام العبيد برسم الجدل المدمج ليكتمل التوافق بين جدلين: جدل الجدل.
لهذا الجمود وذاك الأسر تجلّيات في هذا التخاطب التبسيطي الذي يمارس في حدود عقل ليس هو العقل الكوني إلاّ من حيث قابليته للخضوع، لنشوة العبودية التي يتيحها الجدل المُدمج، وليس العقل في شروط أنطولوجيا فائضة في خبرتها التكاملية، عقل وفيّ للتجاوز، عقل مندمج مع التطلع الأنطولوجي. لا عليك من خطاب عقل وأنسنة ووعي وتنوير وما شابه ذلك إن لم يوضع في سياق الجدل الأنطولوجي، لأنّ مثل هذا الخطاب قد يوجد وبطنين أكبر في إطار الجدل المُدمج، الذي تحصل فيه نشوة العبودية.
في جدل الجدل، بين الكبير والمدمج، يُعاد إنتاج المفاهيم بشروط هذا الجدل المركّب، لن تكون الحاجة إلى كمال الوجود غاية بقدر ما تُقاس الأشياء باستقرار الجدلين على جدل الغٌلب. هذا القناع الذي يتيحه جدل الجدل هو الذي ينفرط عقده عند صدام الجدلين، وهو الزلزال الذي يهزّ المعنى ويعيد المفاهيم إلى أصلها بعد حجبها بألف ليلة وليلة من التخفيض الفلسفي (la philosophie en réclame).
فمن سلطة المعرفة إلى معرفة السلطة، هناك القصة الكاملة لمفاهيم قائمة على جدل الغُلب، إمبريالية المعنى الناجم عن جدل الجدل، لأننا عند انفراط عقد هذا الجدل المركب يهتزّ المفهوم وما جُعل له. ولقد أوضحنا المعنى الذي وضعناه للجدل المُدمج باعتباره جدلاً يعيد إنتاج العلاقة بين السادة والعبيد على أرضية ضربين من الاعتراف غير متكافئين. وأنّ هذا الجدل المدمج هو حصيلة صراع شرس غايته نزع الاعتراف. اعتراف المغلوب بالغالب على قاعدة الخضوع، واعتراف الغالب بالمغلوب على قاعدة وجوده الخاضع وشروط العمل. إنّ الكوجيطو الديكارتي هو خطوة نحو ثبوت الأنا، وهذا الوعي ذاتيّ بامتياز. لكن الكوجيطو الهيغلي هو وعي الآخر بالذات، محاولة لانتزاع الاعتراف بالأنا – موجود. بين ثبوت الأنا برسم الكوجيطو الديكارتي وإثبات الأنا برسم الجدل الهيغلي تكمن رحلة أخرى مكمّلة، لكنّها تحمل قلقها إلى الخارج، في صدام مع الآخر والحاجة إليه في الوقت نفسه. إن الجدل الهيغلي يرسم خريطة هذا الصدام الذي له ضرب من العود الأبدي، لأنّ الخضوع ليس نهائيّاً، بل ثمة دورة، ما يجعل الجدل الكبير يمارس الرّقابة الإمبريالية على سيرورة الجدل المدمج. إنّها قصة الانتقال من ثبوت الأنا نظرياً إلى إثباتها بالعمل والجدل الواقعي.
هذا القدر من الاستيعاب لجدل الجدل، يمنحك فهما أبعد مدى من المتداول برسم الجدل المُدمج، سيجعلك أكثر فهماً لمخرجات هزيمة شمولية تنتج عنها هزيمة فكر ينتشي داخل مقولات فقدت خصوبتها الفلسفية، وفكر مهما تشعب في مُسمّى الوجود هو يقع تحت قلقه، بعيداً عن شأنيته، غير مأخوذ بالفقر الوجودي المحفّز لكمالاته. ويبدو الاكتفاء بمزابل الإنشاء وما تتضمنه من فاسد النّظر ظاهرة في التّخاطب، واكتساب الثقة في مزيد من تدوير زبالة المفاهيم المستعملة ببجاحة غبي جاك بريفير(le cancre)، لأنّ سلطة جدل الجدل لم تعد معطى واعياً، بل هي مركوزة في اللاوعي الجمعي، لعبيد فقدوا حتّى الشعور بأنّهم عبيد في نمط التفكير تحت طائلة شروط إمبريالية كاسحة، حتى من يزاولون الهيمنة الإمبريالية لم يعودوا يعون أنّهم أنفسهم ضحايا جدل انقطعت فرامله وهو في منحدر يتّجه بقوة الوزن الميت (poids mort)، في اتجاه المجهول..