ثقافة التواصل الاجتماعي
على الرغم من وجود تعريفات كثيرة لثقافة المجتمعات، إلا أن معظمها يجمع على أنها نظم المعلومات المنتشرة في البيئة المجتمعية، والتي يتم اكتسابها بشكل تراكمي من عوامل عديدة كالعادات والأعراف والتقاليد، والإرث الاجتماعي، والدين، والقيم والآداب الإنسانية والفنون والموسيقا وغيرها من الأمور التي يكتسبها الإنسان في مجتمعه.
ويعتبر بعض الباحثين أن الثقافة “هي وسيلة تحسّن من وضع الإنسان”، وأنّها “تساعد الأفراد على تنظيم معتقداتهم، وقيمهم، ومعارفهم، وجميع الأشياء التي تعلّموها في حياتهم، والذي يُشكّل في النهاية أنماط سلوكهم”، فيما يرى آخرون أنها “نتاج أيّ مجتمع ولا تتشكّل كظاهرة فردية، أي إنّها تحتاج إلى وجود مجتمع كامل حتى يستطيع أيّ فرد تشكيل وتطوير ثقافته من خلال تفاعله الاجتماعي مع الآخرين”، وهي سلوك متعلّم، أي إنّها لا تكتسب بالفطرة، ويمكن أن تنتقل من جيل إلى آخر من خلال انتقال الصفات الثقافية من الآباء إلى أطفالهم، والذين بدورهم ينقلونها إلى أطفالهم مستقبلاً، مع إمكانيّة إضافة سمات جديدة عليها، لذلك فهي تتغيّر من مجتمع إلى آخر.
وإذا كان المتعارف عليه سابقاً أن الثقافة تكتسب من عدة مصادر كالآباء، أو الأقارب، أو المدرسة، أو التقاليد والأعراف، والتنشئة الاجتماعيّة وتفاعل الفرد مع مجتمعه، هل يمكن اعتبار ذلك دقيقاً تماماً في ظل القوة التي اكتسبتها الدراما والسينما ووسائل الإعلام، التقليدي منها والحديث، خلال العقود الأخيرة؟ والإجابة على هذا السؤال واضحة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الوسائل ليست من دون هدف، والأقوى فيها هو الأقدر على تحقيق هدفه والتأثير في المتلقين على اختلاف ثقافاتهم.
لقد نجح الأميركيون من خلال سينما هوليود بغزو الكون ثقافياً وتمكنوا من زرع مفاهيم وآراء مسبقة حول قضايا خطيرة في الأجيال الجديدة في مختلف أنحاء العالم، فالأميركي منقذ العالم، والإسرائيلي هو المضطهد بالرغم من الجرائم التي يرتكبها يومياً بحق العرب عموماً والفلسطيني خصوصاً، والعربي هو الشهواني المادي، والمسلم إرهابي أو متطرف في أحسن الأحوال.
وجاء صعود نجم مواقع التواصل الاجتماعي، بمختلف منصاتها (يوتيوب وفيسبوك وتويتر وتيك توك وإنستغرام) وغيرها، ليتمم ما بدأته الوسائل الأخرى من استهداف للثقافات التي كانت عاملاً مساعداً في الحفاظ على ترابط المجتمعات، فعملت مواقع التواصل على التغلغل في رؤوس الأفراد وتغيير معتقداتهم وثقافاتهم، فحلت الانهزامية محل ثقافة المقاومة، والإحباط مكان الأمل، والعادات وطريقة الحياة الغربية ضربت عاداتنا وتقاليدنا، لتتحول بذلك حالة الترابط في المجتمعات إلى حالة من التفكك الخطيرة والتي تشكل تهديداً غير مسبوق لمجتمعاتنا وثقافاتنا وقيمنا.
وإذا كانت المسؤولية الأكبر في التصدي لهذه الحالة تقع على عاتق حكومات الدول المستهدفة للانتقال من كونها متفرجاً سلبياً إلى جهات فاعلة في الدفاع عن مجتمعاتها، وهذا بطبيعة الحال بحاجة إلى العديد من المقومات غير المتوفرة حالياً، فإن المسؤولية الأكبر اليوم تتحملها الأسرة والمجتمع بحد ذاته لتوفير الوعي الذاتي لدى أفرادها بما يكفل إمكانية الاستفادة من الإيجابيات التي يوفرها العالم الافتراضي لجهة سهولة الحصول على المعلومات، وتعزيز ثقافة الفرد القادرة على تحصينه مما يتضمنه هذا الفضاء من سلبيات تحمل الكثير من الأذى والضرر غير القابل للإصلاح على مستقبل أجيالنا التي لن تنجح في أن تكون غربية ولن تتمكن من العودة إلى أصالة ثقافتنا وتقاليدنا وقيمنا إن لم نتدخل وبشكل فاعل وفوري.