يعمل على فيلم يتناول القضية الفلسطينية الفنان غطفان غنوم لصحيفة الحرية: الإخلاص للثورة هو المعنى الأعمق لوجودي كفنان وإنسان
الحرية- بديع صنيج:
“غطفان غنوم” مثال ناصع عن الفنان الملتزم بقضايا وطنه، بدأ شغفه من مسرح صغير في “بابا عمرو” ليتعمَّق وعيه الفني في المعهد العالي للفنون المسرحية، ولتزداد رؤيته وضوحاً في الأكاديمية الفنية الحكومية بجمهورية مولدافيا الشعبية حيث درس الإخراج السينمائي، ومن مدينته حمص إلى مولدافيا، ثم فنلندا مكان إقامته الحالية والذي بات من أبرز أعضاء نقابتها السينمائية ونقابة صحفييها، ومنها إلى أكثر المهرجانات السينمائية العالمية شهرةً وسمعةً، أصبح لـ”غنوم” بصمة فنية تميزه وتتماهى معها حكاياته التي يرويها عن الثورة والحرية وارتباطهما بالفن. حول هذه الموضوعات وغيرها كان حوارنا التالي:
فيلم “الابن السيئ” مسعى لبعث روح ثورة اعتقد كثيرون أنها ماتت
• المتابع لمسيرتك المهنية يلحظ أنها مرتبطة ومتماهية مع الثورة السورية، هل نستطيع القول أن الثورة هي التي صنعتك أو هي المكون الأساسي في بنيتك الفنية؟
** في سؤالك ثلاث مفردات محورية: المهنة، الفن، والثورة. لكل منها حضور جوهري في مسيرتي، لكنها تتداخل لتشكّل معاً جوهر تجربتي الشخصية والفنية.
لم أختر مهنتي في البداية. كنت كأي شاب سوري، تحاصرني قيود اجتماعية وسياسية، وتسوقني الظروف إلى البحث عن مخرج لحياة كريمة. اخترت دراسة الحقوق، وقطعت فيها شوطاً امتد لسنتين، قبل أن أجد نفسي على مفترق جديد عندما قُبلت طالباً في المعهد العالي للفنون المسرحية لدراسة التمثيل. بين هذين الخيارين، حدث التحوّل الأكبر: شاهدت عرضاً مسرحياً قدّمته فرقة إشبيلة التابعة لحي بابا عمرو، تلك الفرقة التي أصبحتُ لاحقاً جزءاً من كيانها. كان العرض مؤثراً على نحو غير متوقع؛ أضحكني وأبكاني كطفل في آن واحد، وكأنه فتح باباً لم أعرف أنه موجود في داخلي. حينها، أدركت أن مكاني هو هنا، في هذا العالم الذي يمتزج فيه الفن بالحقيقة.
الثورة حالة شعورية وفكرية أعيشها في كل وسيلة تعبير أطرقها
لكن أليس الانقلاب على الذات ومعتقداتها أول أشكال الثورة؟ أن تهدم بيديك طمأنينتك لتعيد بناء نفسك على أسس جديدة؟ بالنسبة لي، كانت هذه البداية: ثورة على المسار التقليدي الذي فرضته الظروف، وانحياز مطلق للفن بوصفه أداة للتغيير. فالفن قبل كل شيء تمردٌ على الواقع، ومسرح الحرية الذي يُحلِّق فيه الطموح الإنساني.
لقد كانت الثورة السورية امتداداً طبيعياً لتلك الثورة الشخصية. الفن، كالثورة، يهدف إلى تغيير شيء ما، إلى تقويض اليأس والقيود وفتح أفق جديد. ربما صنعتني الثورة، أو أعادت لي ثقة فقدتها قبل ذلك، فرتبت واقعي الجديد وفقاً لاعتباراتها وشروطها، لكن الأكيد أنني كنت مخلصاً لثورتي الذاتية، ومخلصاً لفكرة الحرية بكل أثمانها. دفعني ذلك الإخلاص إلى تحمل تحديات ومخاطر لا تُحصى، إلا أنني وجدت فيه المعنى الأعمق لوجودي كفنان وإنسان.
• منذ “بورتريه في مدينة ثائرة” وحتى “الابن السيئ” كيف تتلمس ملامح ثورتك في الفن؟ لاسيما أن الفن في أحد تعاريفه هو ثورة جمالية؟.
** بين “بورتريه في مدينة ثائرة” و”الابن السيئ”، تتبدى ملامح ثورتي في الفن كتجربة نضوج عاطفي وفكري، تعكسها التحولات بين الفيلمين في الرؤية والهدف.
“بورتريه في مدينة ثائرة” كان وليد اللحظة، صدىً مباشراً لمعاناة مدينة القصير المحاصرة تحت القصف اليومي. في تلك الظروف المحتدمة، وجدت نفسي، بشكل غريزي، أبتعد عن تصوير العنف، كأنما أردت أن ألتقط جوهر الحياة في ظل الموت، أن أروي قصة مدينة تعكس حكاية سوريا كلها. كانت رسالة الفيلم بسيطة وإنسانية: نحن أصحاب قضية عادلة، مدننا تُقصَف، لكنها تشبه كل مدن العالم بحياتها وطموحاتها وآلامها. إنه فيلم ابن زمنه، مفعم بروح الصمود وسط الفاجعة.
الصدق المتجذر في المحلية يمنح العمل الفني قوته وشموليته
أما “الابن السيئ”، فقد كان تجربة مختلفة تماماً. لم أكن محاصراً أو مهدداً حين عملت عليه، بل كنت في فنلندا، أتمتع بالحرية في صياغة رؤيتي. ومع ذلك، حملت هذه الحرية عبئاً أخلاقياً أكبر: أن أروي الحقيقة بكل قسوتها، دون مواربة أو استجداء للتعاطف. بات الفيلم صرخة مباشرة في وجه الصمت العالمي، ومسعى لبعث روح الثورة التي اعتقد كثيرون أنها ماتت.
“الابن السيئ” لم يكن مجرد فيلم، بل رحلة داخلية أعادتني إلى أعماق الثورة. أثناء المونتاج، عايشت آلاف المقاطع التي التقطت عبر السنوات، كأنني أعيش الثورة من جديد في سياق مختلف، محاولاً الحفاظ على جذوتها حية في روحي أولاً. الفيلم كان إجابة عن سؤال ظلّ معلقاً في ذهن كل من شاهده: “ماذا حدث في سوريا؟ ولماذا حدث؟”. وبهذا، صار نافذة لفهم القضية السورية، تمهيداً لتقدير أي عمل توثيقي سوري آخر دون التباس أو استغراب.
بين الفيلمين، تغيّرت الأولويات. إذا كان “بورتريه في مدينة ثائرة” بمثابة خيط في قماشة الثورة، فإن “الابن السيئ” هو القماشة التي جمعت أطراف الحكاية. إنه مشروع يحافظ على روح الثورة، يعيد سردها بمنطق صارم وفن حر، ويضعها في سياقها الإنساني والكوني.
• بدايتك كانت في المسرح ثم في التلفزيون والسينما، وكل منهما له آلياته المختلفة وروحه الخاصة، أين تجد روحك ترفرف بحرية أكبر لتجعلك قادراً على صياغة رؤيتك الثورية الأوضح؟
**لكل نوع فني شروطه التقنية وآلياته الخاصة التي تفرض على الفنان أسلوب عمل مختلفاً، سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما. لكن على المستوى الروحي، الأمر أكثر تعقيداً وعمقاً.
لم يكن هدفي تجسيد “ماهر الأسد” كشخص بل انعكاساً لحالة الاستبداد المطلق
حيثما تجد المشروع الفني الذي يعبر عنك بصدق، حيثما تلامس التجربة جوهر ذاتك، هناك فقط ترفرف الروح بحرية. المسرح بألقه المباشر وحميميته يتيح مواجهة حية مع الجمهور، بينما السينما تمنحك فسحة من التأمل والغوص في التفاصيل، والتلفزيون يسهم في إيصال صوتك إلى نطاق أوسع. لكنني لا أراها مسارات متباعدة، بل دائرة تدور باستمرار، تلتقي فيها كل هذه الفنون لتعبر عن جوهر واحد: البحث عن الحرية والتمرد على الواقع.
كل وسيط فني هو أداة تعبير تحملني إلى زاوية جديدة من الرؤية. المسرح كان نقطة البداية، لحظة الاكتشاف الأولى التي فتحت لي أفق الفن، بينما منحتني السينما حرية صياغة رؤيتي الثورية بمزيد من العمق والشمولية. لا أختار بينهما، بل أترك الروح تتبع ما يتسق مع حقيقتي ومشروعي الإبداعي. الثورة بالنسبة لي ليست فقط مضموناً أتناوله، بل هي حالة شعورية وفكرية أعيشها في كل وسيلة أطرقها، وأبحث فيها عن أصدق تعبير لما في داخلي.
• من “بابا عمر” في حمص إلى السينما العالمية وأرقى الجوائز، هل تؤمن بمقولة أن العالمية تتحقق فقط عبر الإغراق في المحلية؟
**من المبالغة القول إننا حققنا “العالمية”، لكنها فكرة نستشعرها كطريق محتمل للانتشار، وليست غاية نهائية. في واقع الأمر، مفهوم “العالمية” قد يكون مخيباً للآمال، لأنه غالباً ما ينطوي على مفارقة مؤلمة: أن الاعتراف الدولي يأتي أحياناً كشرط ليؤمن بنا محيطنا المحلي، وكأن التقدير الخارجي يمنحنا شرعية نفتقدها بين أهلنا.
ما أؤمن به بعمق هو أن الفنان الحقيقي يجب أن ينطلق من عالمه الخاص، من التفاصيل التي يعرفها، من القضايا التي تلامسه شخصياً، ومن التجارب التي اختبرها. هذا الصدق، المتجذر في المحلية، هو الذي يمنح العمل الفني قوته وشموليته. حين يكون العمل نابعاً من الروح، فإنه يجد طريقه إلى أرواح الآخرين، مهما كانت خلفياتهم الثقافية.
لعل فيلماً مثل “روما” للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون يقدم مثالاً بارزاً على ذلك. الفيلم يحكي قصة بسيطة ومتواضعة في سياق محلي تماماً، تدور حول حياة خادمة في المكسيك خلال السبعينيات. لكنه بلغ قلوب الملايين حول العالم، ليس فقط بسبب براعته الفنية، بل لأنه غاص بصدق في تفاصيل بيئته وقصصه الخاصة.. في الوقت نفسه، هناك أمثلة لمخرجين تمكنوا من دراسة مجتمعات لا يعرفونها وتقديم أفلام عظيمة.
• بين “الولادة من الخاصرة” و”ابتسم أيها الجنرال”، بين المواربة الفنية والمباشرة، أيهما تفضل ولماذا؟
**لكل عمل درامي تلفزيوني طبيعته وشروطه التي تحدد أسلوبه، سواء اختار المواربة الفنية أو المباشرة في طرحه. المواربة قد تكون خياراً ناجحاً حينما نعتمد على ذكاء المتلقي ووعيه لقراءة الرسائل المبطنة خلف العمل. أما المباشرة، التي تُذَم أحياناً كخيار سطحي أو تقليدي، فقد تصبح ضرورة في ظروف معينة، خصوصاً حين يتطلب السياق وضوحاً لا يحتمل التأويل.
لكن الأمر لا ينفصل عن السياق الاجتماعي والسياسي للمشاهد. بالنسبة لمن يعيش تحت قمع أمني خانق، تصبح المواربة وسيلة للبقاء وطوق نجاة، حيث توفر مساحة لقول ما لا يُقال دون الاصطدام بالمحظورات. على النقيض، المشاهد الذي يعيش في بيئة أكثر تحرراً قد يرى في هذا الأسلوب نقصاً أو ضعفاً في الطرح، ويفضل المباشرة التي تواجه القضايا دون لف أو دوران.
أما بالنسبة لي، فإن الأمر يعتمد في النهاية على جودة التنفيذ الفني. لا يهم إن كان الطرح موارباً أو مباشراً، ما دام يتم تقديمه بسوية فنية عالية تتناسب مع الإمكانيات الإنتاجية. في ظل الإنتاج العربي، غالباً ما نجد أنفسنا مضطرين للتماشي مع قيود مادية واقتصادية تؤثر على شكل المنتج النهائي، لكن الحرفية يمكنها تجاوز هذه العقبات إذا أُحسن استثمار الموارد المتاحة.
المسألة إذاً ليست تفضيلاً مطلقاً بين أسلوب وآخر، بل هي توازن بين الفكرة والسياق والتنفيذ. في أعمال مثل “الولادة من الخاصرة”، حيث المواربة تخدم البيئة القمعية للشخصيات والمشاهدين، أو “ابتسم أيها الجنرال”، الذي اختار المباشرة في سياق صادم ومباشر، نجد لكل أسلوب مبرراته الفنية والإنسانية، بشرط أن يخدم الهدف الأكبر: إيصال الحقيقة، سواء بشكل خفي أو واضح.
• الناس كرهوك عندما ماهوا بين شخصية ماهر الأسد التي تجسدها وبين شخصيتك.. كيف استطعت أن تجسد كراهيتك للشخصية بكل هذا الجمال؟
**حينما قررت تجسيد شخصية كهذه، كنت أعلم جيداً حجم التحدي الذي سأواجهه. شخصية مليئة بالقسوة والغطرسة، محملة بثقل تاريخ دموي ومواقف تستفز أعمق مشاعر الكراهية في النفوس. لكن كممثل، كان علي أن أتنحى عن موقفي الشخصي، وأن أقترب من الشخصية بكل موضوعية، محاولاً فهم دوافعها ونقاط ضعفها، بدلاً من أن أحكم عليها.
لم يكن هدفي تقديم “ماهر الأسد” كشخص، بل تقديم انعكاس لحالة الاستبداد المطلق، وجعل المشاهد يلمس مدى بشاعة الكراهية والظلم عندما يتجسدان في إنسان. ربما ما جعل الأداء مؤثراً هو أنني تعاملت مع الشخصية بمزيج من الوعي والالتزام: وعي بأنني أؤدي دوراً ولا أصدر حكماً، والتزام بنقل تعقيدات الشخصية من دون مبالغة أو سطحية، مع مراعاة فرض السيناريو لإيقاع الشخصية المنفلتة والمنفعلة بسبب الكثافة الزمنية التي تشترطها الأحداث وثقل وقع الأحداث نفسها.
وهناك جانب آخر مهم: الكراهية التي شعرت بها تجاه الشخصية كانت الوقود الذي دفعني لتقديمها بهذا العمق. كنت أعلم أن تقديمها بجماليات فنية هو السبيل الوحيد لجعل الناس يكرهونها كما ينبغي، ويدركون فظاعة ما تمثله.
في النهاية، لم يكن الأمر عن “أنا” الممثل، بل عن قدرة الفن على تسليط الضوء على شخصيات وأفعال يجب أن تبقى في ذاكرة الناس، لا لتُخلّد، بل لتكون درساً وعبرة.
• بعد “الابن السيئ” ما هي مشاريعك المستقبلية؟
**حالياً، أواصل إدارة مهرجانين سينمائيين في فنلندا؛ أحدهما يتبع الدولة، والآخر أسسته بنفسي قبل عشر سنوات، وهو مشروع أفتخر به كثيراً نظراً لدوره في تعزيز التبادل الثقافي عبر السينما.
على صعيد الإخراج، أعمل على توفير الظروف الإنتاجية لفيلم روائي طويل تم قبوله في مؤسسة السينما الفنلندية، كتبه الصديق الروائي “الفارس الذهبي”، تأخر إنجازه بسبب سلسلة من الأزمات العالمية، بدءاً من جائحة كورونا وصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وكأن السوري أينما حل لا يفلت من لعنة الأزمات التي تلاحقه.
إلى جانب ذلك، بدأت مؤخراً العمل على فيلم وثائقي جديد يتناول القضية الفلسطينية، وهو مشروع ذو أهمية خاصة بالنسبة لي، إذ أرى فيه فرصة لإعادة تسليط الضوء على واحدة من أقدم القضايا الإنسانية والحقوقية المستمرة حتى اليوم. إنه تحدّ جديد لكنه جزء من نفس المسيرة التي بدأت بها، مسيرة تبحث عن العدالة والحقيقة من خلال السينما.