عن الذّاكرة المهدورة
تشرين – ادريس هاني:
ندفع فاتورة التّأخر مُضاعفة، التّردّد في اقتحام عصر المفاهيم الكبرى، نفكُّر كما لو كنّا في شروط غير شروط عصرنا الذي نرفض الانتماء إليه في الوقت الذي هو يفرض شروطه علينا وغصبا عنّا.
لقد تراجع تفاعلنا الإيجابي مع العالم منذ توقّف زماننا العقلي، وأصبح رهاننا على ما ينتجه العناد. حلّ الانفعال محلّ الفكر، والتبس الأمر وجاوز في التباسه المدى، وما زالت انتظاراتنا ممتدّة إلى المجهول.
أخشى على مصير بات منذ اليوم مرتهناً للتضليل، وهو تضليل يوشك أن يعانق أقصاه، شمولية التّضليل، بات البشر يفقد ماهيته بعد أن تكدّر وجوده وتدانى، حيث بات المُؤرِّخ أرّاخا “كلمة أرّاخ هي للعروي”، منذ تورّمت الذّاكرة غير المحققة ومورس التّأريخ من دون فكر تاريخي، الفيلسوف بات فيلدوقا (كلمة فيلدوق هي لفرانسوا شاتلي) مستسلما للنّقائض وحُثالة المفاهيم، كما بات الاقتصادي فيزيوقراطيّاً متنكِّرا للعقد الاجتماعي وآخر ما تبقّى من القيم الاجتماعية.
أعود إلى المؤرخ، ذاك المؤرّخ، حين تخونه ملكة التحقيق، ويلوذ بالخيال، ويجهل تاريخ التّتريخ ومناهجه، والأخطر من ذلك حين يغامر المؤرخ في التّأريخ من دون فلسفة للتّاريخ، هنا يصبح المؤرخ الآبق من الفكر التّاريخي يخشى من الفيلسوف حقا، لأنّ هذا الأخير هو المعني بتدبير مفهوم الزّمن.
يهمّني هنا وضعية المؤرّخ، أو معظم من استهوته لعبة الذاكرة المحكية، هواية كل سياسوي يسعى لترميم ذاكرة مثقوبة، حيث تلتقي الأزمنة وتُرحّل شروطها في عملية خلط الأوراق، في لعبة قمار بعيداً عن الرّقابة والمحاسبة.
المُتذكّر وحتى لا يكون نصّابا، عليه أن يدرك بأنّه سمكة في بحر شروط تاريخية يصعب الخروج منها بانتحال شخصية واستدراك ما لم يكن، المتذكّر الذي ينصب نفسه محوراً لتوزيع شهادات حسن السلوك لمن حوله من السابقين واللاحقين، من يعرف ومن لا يعرف، هو حالة فريدة في الحُمق بل في القذارة.
لقد بات للتّفاهة صولة، وهي ترسم ملامح مستقبل زاخر بميراث معرفي مغشوش. ستكون المهمّة صعبة لإعادة صناعة الذاكرة إلى منزلة الرُّشد، ذلك لأنّ التّاريخ ميراث جماعي، يتوقّف عليه مصير المعنى والاجتماع وإلاّ فهو النزيف، إنّ أول قطاع يسقط أمام غزو التّفاهة هو التّاريخ، وحينما يصبح التاريخ هواية سردية مفتوحة من دون ضمانة منهجية أو تحقيق الوثيقة، نكون أمام لعبة التخييل.
أنظر في واقعنا، إنّ منسوب التخييل غامر، لا شيء يضمن تاريخاً كُتب قبل عام، فماذا عن تاريخ ممتد إلى حقب؟ ليس هناك قسم نظير قسم أبي قراط بالنسبة لهواة التّأريخ بالتخييل، لا شكّ أنّ مكر التّاريخ كفيل بإفشال مكر الأرّاخ، لا سيما وأنّ الذّاكرة حين تشقى، تفقد مناعتها أمام مكر التّاريخ، وحين يتضخّم ذُهانها يكثر عُثارها.
إنّ الذّاكرة المهدورة تحيلنا إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، سيكولوجيا سبق وعالجها ببراعة صديقنا المرحوم د. مصطفى حجازي. تورّم الذّاكرة وإصابتها بالذُّهان المزمن هو خطر على تكوين العقل وبنيته. التحليل النفسي لذهان الذاكرة التضليلية، يحيلنا إلى التعويض، وهو فعل لا واعي سرعان ما يتحوّل إلى عُصاب، التمييز بين التّأريخ كصناعة وفنّ وبين السرد الاستذكاري كعُصاب تعويضي، هي مهمّة التّحليل النّفسي أو المؤرّخ نفسه شريطة أن يكون مؤرّخاً بصّاصاً في سائر الصنائع، متملِّكاً لأكثر من ناصية فنية.