ليس ضرباً من الخيال.. إمكانية إحداث تنمية اقتصادية في قطاع غزة رغم الكوارث التي سببها العدوان الإسرائيلي

تشرين- يسرى المصري:
ما يزال الأمل كبيراً بالنهوض.. رغم صعوبة الوضع، فإن غزة تمتلك قدرات وطاقات وكفاءات بشرية مذهلة، فمستويات التعليم مرتفعة، وتتوفر عمالة ماهرة، إلى جانب امتلاك ثروات طبيعية من موارد بحرية، قادرة على إخراجها من أزمتها وتوجيهها نحو النهوض.
لم يكن حال الاقتصاد الغزي قبل السابع من أكتوبر بوضع سوي، إذ عانى لسنوات طوال من الحصار والتضييق والتهميش، وقُطعت أوصاله وفُصل عن العالم الخارجي، ومُنع من استخراج الغاز الطبيعي من الحقول التي اكتُشِفت في تسعينيات القرن الماضي في البحر الأبيض المتوسط قبالة شاطئ غزة، وضيّق عليه في ثرواته المائية الغنية.

قدرات وطاقات وكفاءات بشرية مذهلة ومستويات التعليم مرتفعة وامتلاك ثروات طبيعية من موارد بحرية

وقد تسبب هذا بأوضاع كارثية لعموم قطاع غزة، إذ بلغت نسبة انعدام الأمن الغذائي في القطاع -حسب تقرير للبنك الدولي في أيار 2023- حوالي 53%، ما يعني أن أكثر من نصف السكان كانوا يعانون من خطر انعدام الأمن الغذائي.
كذلك فإن أكثر من نصف القوى العاملة كانت تعاني من بطالة، ويتلقى 83% من العاملين أجراً أقل من الحد الأدنى للأجور.
إضافة إلى أزمات العجز في إمدادات الماء والكهرباء لقطاع غزة، وارتفاع تكلفتها وعدم انتظامها، وتحديات اجتماعية واقتصادية أخرى. وتسبب ذلك في انحسار قطاع الزراعة، وتراجع قطاع الصناعة، اللذين يشكلان عضدي الاقتصاد، وأدى هذا إلى ضعف القدرة على إحداث تنمية حقيقية في قطاع غزة، وجعل الهيكل الإنتاجي فيه مشوهاً، ويميل للشكل الخدمي، وينحرف عن مقصده الإنتاجي، ويعمل بأقل من قدرته الإنتاجية الطبيعية بكثير.
وقالت منظمة العمل الدولية: إن معدل البطالة في قطاع غزة وصل إلى نحو 80% منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في تشرين الأول، ما يرفع متوسط البطالة في أنحاء الأراضي الفلسطينية إلى أكثر من 50%.
وذكرت المنظمة التابعة للأمم المتحدة، في تقييمها الرابع لتأثير الحرب على التوظيف، أن معدل البطالة وصل إلى 79.1% في قطاع غزة، وإلى حوالي 32% في الضفة الغربية، ليصل المعدل الإجمالي إلى 50.8% .
وقالت ربا جرادات المديرة الإقليمية للدول العربية بالمنظمة: “هذا يستثني الفلسطينيين الذين فقدوا الأمل في العثور على وظيفة”، وأضافت: “الوضع أسوأ بكثير”.
الأسر التي فقدت معيلها قد تلجأ إلى وسائل أخرى لكسب قوت يومها بما في ذلك انتشار عمالة الأطفال.
وفي وقت سابق، قال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في بيان له: إنه وفي ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، وما نتج عنه من توقف للاقتصاد في القطاع المحاصر ولأجل غير معلوم، يصبح الحديث عن سمات العمالة غير واقعي.
وقالت رئيسة جهاز الإحصاء الفلسطيني علا عوض: “مع بداية العدوان على قطاع غزة قفزت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وتشير التقديرات إلى فقدان ما لا يقل عن 200 ألف وظيفة خلال الشهور الثلاثة الأولى من العدوان”.
وقالت أيضاً: إن غالبية المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بقياس سمات القوى العاملة لم تعد واقعية ولا تنطبق على غزة، فالأولوية القصوى للفرد في القطاع أصبحت تتمحور حول توفير المأوى والمأكل والمشرب والبحث عن الأمن.
فيما أكدت الخبيرة في منظمة العمل الدولية آية جعفر أن نحو 25% من شهداء قطاع غزة هم من الرجال في سن العمل، وهذا يعني خسارة مهارات في جميع القطاعات التي ستتأثر في المستقبل بشكل كبير.
وأشارت الخبيرة إلى أن قطاع غزة خلال الحرب يعمل بنحو 14% من طاقته الإنتاجية مع استمرار العمل في بعض القطاعات الحيوية خلال الحرب، بما في ذلك القطاع الصحي وبعض المخابز والمحال التي تبيع مواد أساسية.
وحذرت من أن الأسر التي فقدت معيلها قد تلجأ إلى وسائل أخرى لكسب قوت يومها، بما في ذلك انتشار عمالة الأطفال.
وتواصل (إسرائيل) حربها المدمرة على قطاع غزة للشهر التاسع على التوالي، محدثة دماراً شاملاً في كافة مناحي الحياة هناك.
الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انكمش بحوالي 33% في الأراضي الفلسطينية منذ بداية الحرب وتقول وزارة الصحة في غزة: إن أكثر من 36 ألفاً و500 شخص استُشهدوا منذ ذلك الحين في القطاع، الذي يبلغ عدد سكانه 2.3 مليون نسمة.
وقالت جرادات: “تخيل مع هذا المستوى المرتفع للغاية من البطالة لن يستطيع الناس تأمين الغذاء لأنفسهم ولأسرهم”.
وأضافت: “هذا يؤثر أيضاً على صحتهم.. فحتى لو كان لديهم المال، لا توجد مستشفيات تستطيع استيعاب الوضع الكارثي هناك”.
وعلى صعيد البيانات الاقتصادية، انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بحوالي 33% في الأراضي الفلسطينية منذ بداية الحرب.

الأسر التي فقدت معيلها قد تلجأ إلى وسائل أخرى لكسب قوت يومها

ويقدر الانكماش بنحو 83.5% في قطاع غزة، وبنسبة 22.7% في الضفة الغربية، وفقاً لبيانات نشرتها منظمة العمل الدولية.

وبين تقرير نشره مركز رؤية للتنمية السياسية (الذي كتبته الباحثة والمختصة بشؤون الاقتصاد الفلسطيني الدكتورة رغد عزام) أنه بالحديث عن اقتصاد فلسطين، فإن أزمته الاقتصادية مزمنة ومرتبطة منذ عقود بوجود الاحتلال وتصرفاته التعسفية وانتهاكاته المتواصلة، فلا يمكن التعامل معه بالمقاييس التي يتم التعامل فيها مع أي دولة أخرى ذات سيادة، وتمتلك مواردها ولها كامل الحرية في اتخاذ قراراتها.
وبعرض سريع لآثار الدمار والإبادة التي مارسها الاحتلال بحق قطاع غزة، وبالاستناد إلى أحدث الإحصاءات المتوفرة لدى جهاز الإحصاء الفلسطيني حتى السادس من أيار الجاري، فقد تجاوز عدد الشهداء 35 ألفاً وعدد الجرحى أكثر من 79 ألفاً معظمهم أطفال ونساء.
وعلى صعيد المباني والمنشآت:
دمر الاحتلال 294 ألف مبنى بشكل جزئي.
ودمر أكثر من 25 ألف مبنى بشكل كلي.
ودمر 86 ألف وحدة سكنية بالكامل.
دمر 103 من المدارس والجامعات بشكل كلي.
دمر 309 من المدارس والجامعات بشكل جزئي.
ودمر 32 مستشفى، فخرجت عن الخدمة بالكامل.
تدمير مئات المساجد والكنائس والمقرات الحكومية.
وبعد السابع من أكتوبر، تدهور الوضع الاقتصادي، وأخذت المؤشرات الاقتصادية الرئيسة في القطاع بالانحدار بتسارع شديد. فمع نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023، أظهرت التقديرات المبكرة انخفاضاً حاداً في الظروف المعيشية، إذ بلغ معدل البطالة 79.3%، وارتفع معدل الفقر بين الغزيين إلى حوالي 96%. أما إجمالي الناتج المحلي، ونصيب الفرد منه، فقد سجلا انكماشاً بحوالي 24% و26% على التوالي مقارنة بالعام السابق.
فقطاع الزراعة الذي ساهم في رفد الناتج المحلي في قطاع غزة خلال الربع الثالث من عام 2023 بحوالي 58 مليون دولار، تدهور لتصل إنتاجيته إلى 5 ملايين فقط خلال الربع الذي تلا السابع من أكتوبر.
ويظهر التحليل الإحصائي ارتفاع نسبة الأراضي الزراعية المتضررة خلال هذا العدوان من 5.36% في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 33.13% في/ شباط الماضي.
تأثر قطاع الصناعة أيضاً بالدمار الواسع، وبقطع التيار الكهربائي المتواصل، وبانقطاع سلاسل الإمداد كذلك. فانخفض الإنتاج الصناعي لنحو 51 مليون دولار في الربع الرابع من عام 2023 مقارنة بسابقه.
وقدر البنك الدولي نسبة الأضرار والتدمير التي طالت القطاعات الاقتصادية المختلفة في غزة كما يلي:
قطاع التعليم 73%.
قطاع الصحة 81%.
الخدمات البلدية 75%.
المياه والصرف الصحي 55%.
المعلومات والاتصالات 75%.
النقل 63%.
التجارة 80%.
الإسكان 62%.
وقد وصف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) الأوضاع في قطاع غزة بـ”الكارثية”، وأن الظروف المعيشية في غزة هي في أدنى مستوياتها منذ بدء الاحتلال عام 1967.

آفاق التنمية وإعادة الإعمار
الحروب دائماً ما تترك تحدياً صعباً، وتخلف آثاراً مدمرة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتستمر تبعاتها لفترات طويلة، وتكون أكثر تعقيداً من العدوان بحد ذاته، وعادة ما تستغرق إعادة الإعمار وقتاً طويلاً، وتستدعي جهوداً مضنية، وتواجه فيه المشاريع الصغيرة والكبيرة، حكومية كانت أم خاصة، إشكاليات وعثرات تحد من قدرتها على مواصلة نشاطها بالشكل المطلوب.
وأكد تقرير مركز رؤية أن عملية إعادة الإعمار تتطلب سياسات اقتصادية إصلاحية، تستهدف بداية البنية التحتية، كضرورة أساسية لخفض تكاليف الأنشطة الاقتصادية لاحقاً، وتسهيل عودة عملها بالشكل الطبيعي. يلي ذلك إعادة هيكلة عمل القطاعات، ونقل الاقتصاد المحلي من الاعتماد على القطاع الخدمي إلى الشق الإنتاجي، من خلال استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة، إلى جانب توفير فرص العمل، والتخفيف من وطأة البطالة والفقر بين فئات المجتمع.
وقد أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) في الثاني من/ أيار الجاري تقريراً حول تقديرات الوضع في غزة وحجم الآثار التدميرية على الفلسطينيين والاقتصاد والتنمية البشرية. وتوقع أن يستمر العدوان من 7 إلى 9 أشهر. وقدر التقرير أن سيناريو استمرار الحرب لتسعة أشهر، سيرفع معدل الفقر في فلسطين ككل، إلى أكثر من ضعفي ما كان عليه قبل الحرب، وستبلغ خسائر الناتج المحلي الإجمالي حوالي 7.6 مليارات دولار.
وأشار التقرير إلى التراجع الكبير في مؤشر التنمية البشرية، الذي تأثر بخسارة الشباب والقوى العاملة لفرص العمل.

غزة قادرة
قد يكون الحديث عن إمكانية إحداث تنمية اقتصادية في قطاع غزة ضرباً من الخيال في الوقت الحالي، في أرض بات ينتشر فيها الفقر بأسوأ أشكاله. لكن امتلاك قطاع غزة لقدرات وطاقات وكفاءات بشرية مذهلة، وارتفاع مستويات التعليم، وتوفر العمالة الماهرة، هي نقاط قوة في كفة الغزيين، إضافة إلى امتلاكهم ثروات طبيعية من موارد بحرية وحقول غاز طبيعي وغيرها.

وقطاع غزة بحاجة ماسة لحزمة إجراءات تنموية، ولنموذج استرشادي لتجربة أحد البلدان الإقليمية أو الدولية، التي مرت بظروف شبيهة من الصراع والدمار، وانعدام الأمن والاستقرار، وتمكنت من أن تحدث تغيراً ملموساً، وتحقق تنمية اقتصادية، وتنهض بظروفها المعيشية.
وقد شهد التاريخ الحديث عدداً من التجارب النهضوية لأمم لم يكن بالإمكان التصور يوماً ما أن يكون لها مستقبل اقتصادي، بعد أن رزحت عقوداً في قاع الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستطاعت خلال فترة قياسية أن تقفز قفزات هائلة جعلتها تتحول للاعب أساسي بين الاقتصادات، كتجربة إعادة إعمار أنغولا بعد انتهاء الحرب، وتجربة نهوض رواندا بعد إنهاء الاستعمار وتوقف الحرب الأهلية عام 2000، ومعجزة انتعاش اقتصاد فيتنام التي بدأت بعد انسحاب القوات الأميركية منها عام 1974، إضافة لنموذج تطور ماليزيا وسنغافورة بعد خروج الاستعمار البريطاني منهما.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
الانتخابات الرئاسية الإيرانية تنطلق غداً في 59 ألف مركز وأكثر من 95 دولة في مؤتمرهم السنوي..صناعيو حمص يطالبون بإعادة دراسة أسعار حوامل الطاقة واستيراد باصات النقل الجماعي أربع وزارات تبحث عن تأمين بيئة محفزة وجاذبة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة  في ورشة عمل تحديات العمل المؤسساتي في سورية وآفاقه المستقبلية… ورشة عمل حوارية بجامعة دمشق مجلس الشعب يوافق على عدد من طلبات منح إذن الملاحقة القضائية لعدد من أعضائه العاصمة التشيكية براغ تكرم الشاعر الجواهري بنصب تذكاري انخفاض سعر البندورة يفرح المستهلكين ويبكي المزارعين.. رئيس غرفة زراعة درعا: سبب رخصها توقف تصديرها ونطالب بإلزام معامل الكونسروة بعقودها واشنطن والغرف التي ستبقى مغلقة.. الكيان الإسرائيلي أقرب إلى «العصر الحجري» في أي مواجهة مع المقاومة اللبنانية وخطط «توريط الجميع» لن تنقذه من الهزيمة الحتمية استيفاؤه أصبح يتم من الشاري في المرحلة الأخيرة.. رئيس جمعية الصاغة: فرض 1% رسم إنفاق استهلاكي على الذهب موجود منذ 40 عاماً روسيا وإيران تستنكران محاولة الانقلاب العسكري في بوليفيا