لا غنى عن الفضيلة في السياسة
تشرين- ادريس هاني:
الحديث عن السياسة، علماً وممارسة، حديث لا نهائي، وهذا يعني أنّ علم تدبير المدينة مشروع غير منجز، ويبقى البحث عن وحدة الإطار الذي يضمن استقرار الاجتماع السياسي، من خلال تحقيق الحدّ الأدنى من العدالة، تلك التي ما زالت مثار نقاش جدّي، فالحديث عن العدالة يعني تدبير تناقضات الاجتماع والتخفيض من احتقاناته الطبقية، ودخل مفهوم الدولة الحديثة بحمولة شكّلت منعطفاً في تاريخ الفكر والاجتماع السياسيين، حيث أوجدت آليات لتخفيف تمركز السلطة، ولكن سرعان ما أسفرت الدولة الحديثة والهندسة الاجتماعية للعصر الصناعي عن انفجار صراع طبقي حاد، ما أعاد فكرة مركزية الدولة، الدولة الاجتماعية، مع الثورات العمالية والتيارات التي أفرزتها.
لا يمكن للدولة الحديثة أن تتحمّل سياسات، بل ثمة سياسة واحدة تسعى إلى استيعاب تناقضات المجتمع، سواء ما يتعلق بالتنوع الطبقي أو التخفيف من الفوارق الاجتماعية والتنوع الثقافي، وهو ما جسدته فكرة دولة المواطنة، وكانت الديمقراطية خياراً ما زال يقدم نفسه كمخرج نسبي، من خلال آليات الانتخاب وتفعيل المؤسسة وتوزيع السلطة والصلاحيات، ولكن الديمقراطية ما زالت لم تحتوِ كل إفرازات المشكلات الاجتماعية، غير أنّها تلعب دور الإطفائي وتخفف من أدواء التّسلط المطلق.
التربية على السياسة مطلب أساسي، حيث السياسة في مبتدئها فضيلة ومسؤولية، وليست حرفة بمعنى أنها طريق للارتزاق، ولكنها من منظور وحساب المجتمع الحديث، هناك طبقة سياسية تشغل هذه المسؤولية من دون أن تتحوّل إلى شغّيلة سياسية، بالمعنى الذي نفهمه من دور الشغيلة: بيع القيمة المضافة، بل إنّ العمل السياسي هو عمل تطوّعي، وأنّ عنوان المكافأة هو تمكين الفاعل السياسي من إنجاز مهمّته.
البعد النضالي في السياسة هو الضامن لجعلها ممارسة فاضلة، أي إنّ غايتها تحقيق العدالة، ومطلب العدالة الذي بات أزلياً هو مطلب مثالي، وطلب المثال في السياسات ليس طوبى مستحيلة، كما ينظر إليها السياسوي، بل ثمة فرق بين المثال الواقعي والمُثل الأفلاطونية، علما أن أفلاطون في الجمهورية كان أكثر واقعية، إلى حدّ طرد الشعراء من جمهوريته، كما لا يمكن التنكّر للفضيلة السياسية تحت طائلة رُهاب النزعة المثالية، فما زالت الفضيلة التي تُساوي العدالة بوصفها قيمة القيم، مطلباً سياسياً، ومن دون الفضيلة تضمحل فكرة الاجتماع السياسي، ذلك لأنّ العلاقة بين المعرفة والفضيلة، هي من ثوابت الفلسفة منذ الإغريق وسائر العصر الهيليني وصولاً إلى عصر آباء الفكر السياسي الحديث.. إنّ الفضيلة وحدها تستدعي العقد الاجتماعي حتى في حالة «استذئاب» الطبيعة البشرية عند توماس هوبز، لا غنى عن الفضيلة، بل إنّ تناسخ السياسات وتنوعها هما كفاح مرير للبحث عن أمثلها في تحقيق الممارسة الأفضل.
يعود سبب الميل إلى استبعاد الفضيلة أو القول باستحالتها، إلى خيبات الأمل التي تنتهي إلى حالات اليأس أو سوء فهم حدود السياسة، فالانتظارات الطوباوية من الدّولة تنتهي إلى استبعاد إمكانية تحقق سياسات فاضلة في حدود العقل وشروط الواقع، ذلك لأنّ تحميل الواقع شروط «الطوبى» هو موقف غير عقلاني، ولكن للواقع ممكنات هائلة لإنجاز سياسات أمثل في اجتماع واقعي.
كاتب من المغرب العربي