– بعد انتهاء الكاتبة من قراءة قصتها على المنبر، فوجئتْ بناقد، لم تقرأ له يوماً، يطلب الكلام! قال الناقد إنها استخدمت أوصافاً غير دقيقة لملابس السيدة العجوز، بطلةِ القصة، لأن اللغة العربية أعطت لكل قطعة ملابس اسماً من “الخُفّ” إلى “المئزر” و”القميص” والقلنسوة” و”العمة” و”العصبة” و”الجبة”! ثم توقف عن ضرب الأمثلة لينتقل إلى المفردات التي تناولت الطبيعة، وفيها أيضاً محدودية بحيث لم تأخذ من أسماء المطر ما يناسب الهطْل في الشتاء وفي أصباح الربيع!
بينما كان “الناقد” “يقرّع الكاتبة التي تنتمي إلى لغةٍ قيل فيها: “أنا البحر، في أحشائه الدرُّ كامنٌ” أخذني بعيداً إلى قضايا الكتابة في مجال الأدب! وتذكرت أنني قرأت ذات مرة كيف أحصى أحد النقاد الكلمات التي يستخدمها كاتب مهما اختلف الحدث الذي يكتب عنه، وكيف يُقال مثلاً، عن نصٍّ كُتب للأطفال إنه يتجاوز “الحصيلة اللغوية” للطفل، فهنا تدخل العمليات الرياضية أو الحسابية رغم غُربتها عن عالم الإبداع الذي يفتح آفاقاً بلا حدود لإطلاق المفردات عبر المجاز! وبانزياحٍ غير محسوس ذهبتُ إلى لغة مترجم استخدم كلمة غريبة عن المتداوَل حين قال إن البائع جاء “يتكردح” ورغم أن الفعل صنعَ شكلَ المشية غير السوية، لجأت إلى “المعجم” اللغوي لأعرف هل كان يتعثر أم يترنح أم يعرج، ومن المعجم ودعمِه للمعارف اللغوية حين التباس المعنى أو غموضه، إلى العديد من النصوص التي يُشار فيها إلى شرح المفردات، ولا أحسب أنّ لغة في العالم تفعل هذا إلّا اللغة العربية، لأنها تتصل ببعد وعمقٍ تاريخيين وتتطيّف مع عصور وجغرافيّات واسعة حين ذهبت مع الدعوة إلى الإسلام ومع القرآن الكريم، وحين انتقلت من صحراء إلى مدنيات مختلفة، وحين حلّت في قصور، ورقّت مع رفاهية حقب، كالحقبة الأندلسية!
في الكتابة المعاصرة، كان الناقد على حق، حين انقضّ على النص الفقير في خياراته، لأن الكاتب الذي يستسهل استخدام اللغة لن يستطيع “الحفرَ” الدقيق في معاني البُنية التي أراد تشكيلها فنياً ليقدّمها إلى القارئ، ولأن التصدي لتشكيل مثل هذه “البُنية” يحتاج إلى حصيلة غزيرة من المفردات، كفعل الرسام الذي يحضّر كل الألوان الخام قبل أن يرسم لوحته، حتى لو لم يستخدم منها إلّا القليل، وما هذا البحر اللغوي الزاخر باللآلئ والأصداف بجديرٍ أن يُغرف منه بدلوٍ صغير، ويخرج منه نصٌّ قد لا يجرؤ ناقد على تفكيكه بسبب المجاملة أو “التمريق”!
نهلة سوسو
123 المشاركات