المسألة ليست أكثر من قضية سفر.!.. في إغواء الهجرة والإبداع في دنيا الاغتراب
تشرين- علي الرّاعي:
ليس جديداً على السوري تركه لكلّ هذا الإغواء اللوني من أزرق، وأرجوان، وأخضر، وأبيض، والسفر بعيداً عن بلاد القمح والزيتون وبيارات البرتقال.. فالرومان منذ عهودٍ قديمة؛ كانوا يعيبون على الفينيقيين والكنعانيين حنينهم وانتماءهم الدائم لصور وأرواد وانترادوس، وغيرها من المدن الفينيقية البعيدة.. ومع ذلك؛ كان ثمة غواية لهذا “الفينيقي ” القديم لأن يخوض أعالي البحار، غواية لاتزال مورثاتها باقية في جينات السوري المعاصر، الذي لايزال يرى أنه عليك أحياناً السفر بعيداً جداً؛ كي تعثر على ما هو قريب، ذلك أن معرفة العالم، ليست أكثر من قضية سفر.
هجرات متعددة
كانت سمة الهجرة بين الربعين، الأخير من القرن التاسع عشر، والأول من القرن العشرين، هم شوام، وتحديداَ من سورية ولبنان، وكان الهجرة صوب بعض الولايات المتحدة، أمريكا اللاتينية، البرازيل، الأرجنتين، فنزويلا، وقليلاً المكسيك.. وكان طريق الهجرة غالباَ البحر، وقصائد الوداع صوّرها هؤلاء المهاجرون بحرقةٍ، حيث المناديل الملوحة، والعيون الدامعة، وكأن المرء “يرى من خلف زجاجٍ مكسور” أي كان الحنين يبدأ من لحظة مغادرة السفينة لضفة الوطن باتجاه المهجر، ليعود الشاعر، وغالباً كان الأدباء المهاجرون شعراء من ذات طبيعة الشاعر عندما كان يجثم باكياً عند أطلال قبيلة الحبيبة، حيث الافتراق عن القبيلة لبعض الأميال في الصحراء، كان يفجر الشاعر حنيناً.
من قديم الهجرات
من جهته؛ الباحث الموسيقي صميم الشريف، يرصد في كتابه الضخم، الأقرب إلى الموسوعة والصادر عن الهيئة العامة للكتاب في وزارة الثقافة، مسيرة (الموسيقا في سورية – أعلام وتاريخ) منذ بدايات بعيدة إلى اليوم، حياة خمسة وثلاثين ملحناً، ومطرباً، ومطربة من الذين ولدوا بين عامي (1885و1930 )، ويذهب الباحث، ليصل إلى المعاصرين منهم وإلى اليوم، لاسيما مغنيات الأوبرا الحاليين، ومنذ البداية يتحدث الشريف عن مسألة غاية في الأهمية، وهي ” نزوح” المطرب السوري خارج وطنه، وهذا الأمر يعود إلى بداية القرن الماضي، وربما قبل ذلك، وكان البعض من هؤلاء الذين أطلقوا مواهبهم خارج سورية، أجاد وأبدع، ولفت الانتباه إليه، أكثر من مطربي البلد المضيف نفسه، فيما عاد آخرون مكسوري الخاطر..
في المقابل يفرد الباحث صفحات لمطربين آثروا البقاء في سورية، وتحملوا الصلف والعنت، الذي وقف حائلاً دون تقدم مسيرة الفن السوري حتى منتصف القرن الماضي، هذه الفترة التي كانت لاتزال تعشعش في تلافيفها ظلامية العهد العثماني وجاهليته، وهنا يخطر في البال أبو خليل القباني وحرق مسرحه.
الوجهة المصرية
في هذه الأجواء المتزمتة، والمحملة بإرث العثمانيين ، يظهر أحمد أبو خليل القباني بمسرحه الغنائي كظاهرة فريدة في الغناء والموسيقا، الذي وجد ذاته في الرحيل إلى مصر، وكان سبقه إليها شاكر الحلبي عام 1840، وقام بتلقين أصول الموشحات وفنونها، ومنذ مطلع القرن العشرين شهدت القاهرة ” غزواً ” مركزاً قوامه مشاهير الموسيقيين والممثلين السوريين، ككميل شامبير، توفيق الصباغ، ناجية الشامية.. وغيرهم.
هجرة المطربات
وفي فصلٍ لافت يتحدث الشريف عن المطربات السوريات، اللاتي شغلن الحياة الفنية بدمشق منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى اليوم، وهن كثيرات، منهن من سقط على الدرب لافتقار مواهبهن على الاستمرار، ومنهن من تجاوزن بأدائهن إلى سائر الأقطار العربية، وصولاً إلى مغنيات الأوبرا مثل: أراكس تشكجيان، لبانة قنطار، سوزان حداد، رشا رزق، نعمى عمران، وتالار دكرمنجيان، وهنا إذا كانت ساحة الموسيقا السورية، قد تخلصت من تركة الظلامية العثمانية، نهائياً، رغم موجات الظلامية القادمة من كلِّ الجهات، غير أن الخطر الأشد كان في هذا التجاهل لهذه البنى الموسيقية السورية، لصالح جنس نطلق عليه ” إبداع ” تجاوزاً، وأقصد بذلك الدراما التلفزيونية، هذا كان قبل المحنة التي نزلت بسورية، لكن بعد أن استحكمت هذه المحنة بكل المناطق السورية، صارت وكأن كل الحدود السورية بوابات نزوح؛ منهم – وهم الأكثرية – ركب موجة اللجوء ليحصل على منافع اقتصادية، وهكذا انتشر المبدعون السوريون في مشارق الدنيا ومغاربها.
دون حنين
مع ذلك اليوم لم يعد ثمة أدب مهجري، حتى أن هذه الصفة افتقدت تماماً أي “المهجري” وصرنا اليوم لم نعد نمّيز بين قصيدة كتبت في دمشق وأخرى كتبت في باريس أو لندن، هذه الكتابة التي افتقدت لجرعة الرومانسية العالية، فلا حنين مُخبأ بين الحروف، ربما فقط لدى بعض العراقيين والفلسطينيين، وهم الأكثر اغتراباً اليوم منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن، كما أن الأديب المغترب، هو روائي وشاعر وقاص وفنان تشكيلي, وليس شاعراً فقط، يسافر بالطائرة، وتحت إبطه “اللابتوب” وفي خدمته كل وسائل الاتصال الحديثة من: نت، وفضائيات، وهاتف، حتى إنه يقرأ جريدة الوطن قبل أبناء الوطن أنفسهم،
يسافر إلى بلاد الاغتراب، وهو يعرف على الأقل تسعين بالمئة عنها، أي ليس ثمة صدمة بانتظاره تولد الحنين، وهو الذي هجر عمود الشعر منذ ما يقارب المئة سنة.. ويكتب اليوم قصيدة النثر بكلِّ حميمية اليومي، وكانت وجهة الاغتراب هذه المرة ليست عبوراً للمحيطات والبحار، بل ربما إلى الضفة الأخرى من المتوسط تحديداً إلى باريس ولندن وبرلين، وقد يصل إليهما قبل أن يصل المسافر من دمشق إلى حلب.. اليوم يكاد المبدع العربي يحمل وطنه في حقيبة سفره.. هل لأنّ الأمر كذلك ظل الأدب المهجري ظاهرة منقطعة، لدرجة انقطعت معها كلمة المهجر اليوم لتحل محلها مفردة المسافر والمغترب، وإن طال الغياب..؟
شدّة الاقتراب
إذاَ.. هل كانت “شدّة الاقتراب” أن غيبت مسألة الحنين، على الأقل في النتاج الأدبي لهؤلاء ” المسافرين” الذين هم طلاب علم أم مجد ما، والرزق غالباً بانتظارهم..؟!
مع ذلك؛ ومنذ زمن طويل، فإن ” الغربة ” كانت سبباً في شأن الكثير من المبدعين السوريين.