ألحقت الكاتبةُ السورية قصتَها بفقرةٍ من كتاب سجّل أحداثَ حرب تشرين على طريقةِ ما تذكره السجلاتُ العسكرية في الحروب: مكان المعركة والأسلحة المستخدمة وعدد الجند والآليات والمفاجآت غير المتوقعة والتعامل مع هذه المفاجآت!
كانت الوثيقة موجزة محدودةَ السطور وباردة أيضاً بالنسبة لقارئ عاديّ يطالع كتاباً صفحاتُه متشابهة، لكن الكاتبة أخرجت البطل المجهول من الوثيقة وأعطته اسماً من أسماء أبناء البلد. ورافقت دبابته في برّ الجولان وهي تنطلق تحت حماية الطيران! لم تصل مباشرةً، إلى النهاية التي جعلت دبابته محاصرة في “تل الفرس” حيث ستكون مأثرتُه العظيمة، بل أفسحت له حياةً إنسانية فيها عائلة طيبة تعيش في منزلٍ اخضرّت في حوشه شجرةُ لوز وعلى سطحه الطيني تُفرش صواني مربى المشمش وتُغطّى بالشاش لحمايتها من الغبار والحشرات ويُنشر الغسيل على الحبال والأغصان، ثم يأتي التهجير تحت قصف الطيران الصهيوني وحضور راديو “الترانزيستور” في المدرسة التي استقبلت النازحين لنعرف عبره ما يجري على الجبهة المصرية في صحراء سيناء وكيف دُفن الجنود العطاشى في الرمال من دون رحمة، وسُمِلَت عيونُهم بموادَّ كيماوية حارقة! وسنرى كيف حظي “عبد الله” بأختٍ انضمت إلى العائلة أثناء مسيرها الشاق نحو المدينة بعد استشهاد كل أسرتها، وفيما بعد عملت في تنظيف مداخل البنايات وهو يشتغل في دكان ليوفر مصاريف الدراسة!
بينما الدبابة تمضي في طريقٍ راجع إلى الوطن المسروق لتحريره، يتمنى “عبد الله” أن ترافقه أغنية شجية أو قصيدة من ذاكرته، فنعرف أنه كان يقرأ الشعرَ في الأمسيات وأن له زوجةً حبيبة ودعته ومازالت في أنفه رائحةُ شالها، وستراقبه الكاتبة وهو يخرج من برج دبابته، كما قرأت في “الوثيقة”، ليرمي آليةَ العدو بالقنبلة التي قذفته بها، ثم يعانق الكون شهيداً وهو يلتمس ذرات النسيم، تحمل رائحة اللوز الذي كان رفيق طفولته ويفاعته…
هل “الوثيقة” المكتوبة هي وحدها من تعطي المبدع قدرة على إمدادها بالأجنحة؟ أعتقد أن “الوثائق” التي تحرك وجدان المبدع واسعةٌ مثل طاقاته وأدواته والمُدرَك منها: الحكاية الشفوية، والصورة الفوتوغرافية والخبرُ مهما كان موجزاً، وإننا لنرى في ملحمة فلسطين التي يكتبها المقاومون وحاضنتُهم العظيمة، كنوزاً من الوثائق التي تحفظها “الصورة” و”الخبر” والرواياتُ الشفوية، وننتظر مثيلاتِها لما عشناه في سورية من أهوال الحرب ومفاعيلها لأن “القصة” الأدبية الخاصة بها لم ترتقِ بعد إلى ما كتبته الأديبة “نادية خوست” عن بطل “تل الفرس” بالجولان، ولعلّنا نستبق كتاباتٍ ستكون أقوى وأعلى مقاماً مما قرأنا!