هوس المكتبة و”فئران الكتب” .. وعن تجارب الكتّاب والعلاقة بين الأدباء والقراءة
تشرين- بديع صنيج:
قرأت الكثير عن تجارب كبار الكُتَّاب مع المكتبة، وطقوسهم في القراءة، أمثال ألبيرتو مانغويل في كتابه “المكتبة في الليل”، وهنري ميللر صاحب “الكتب في حياتي”، وبورخيس الذي يتخيل الجنة على هيئة مكتبة، وفيرجيينا وولف صاحبة تعبير “غرفة الإنسان الخاصة” باعتبارها مكاناً لائقاً للقراءة، وغيرهم، كما أعرف الكثير من القرّاء الشغوفين، أو ممن يطلق عليهم “فئران الكتب”، بحيث لا يحتسبون يوماً من حياتهم إن لم يملؤوه بالقراءة، والانتعاش برائحة الورق والأفكار، ومنهم أيضاً من ينتشي بـ”سرقة الكتب” ويعتبرها أنبل أنواع السرقة، وأنها تحتسب من الحسنات، ولاسيما إن تمَّت ممن لا يعرفون قيمة ما يتملكونه من كتب، وآخرون يتعاملون مع كتبهم كأبنائهم، ويدارونها كنفائس، حتى يكادوا يضعون على مكتباتهم أجهزة إنذار ضد السرقة والحرائق وغيرها من المخاطر، وكأنهم يعيشون بالقراءة وللقراءة، يتروحنون بها، ويكتسبون منها معناهم، والكتاب بالنسبة إليهم سبب أساسي في كينونتهم، ومُحرِّض على وجودهم، وسند لهم في مداورة مرارة حيواتهم، لدرجة باتت مكتباتهم هي بمنزلة سيرة ذاتية لهم، ووسيلة بقاء، إذ إنهم ينجون بالكتب وينجُّونها معهم، “أليس كل قارئ هو من يضمن لكتاب معين قدراً من الخلود؟!”، كما يقول “مانغويل”.
خليل صويلح: إلغاء الشكل الفلكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي، وضرورة إطاحة عناوين تسلَّلت عنوةً إلى الواجهة بقوة دفع إيديولوجية أكثر منها حاجة روحية ومعرفية..
المكتبة هي الجنة
“يحيى زيدو” الحاصل على درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة دمشق يربكه الحديث عن الكتاب، لاسيما أنهما “صديقان يصعب وصف العلاقة بينهما بكلمات” كما يقول، ويضيف: “تعود علاقتي بالكتاب إلى المرحلة الابتدائية في قريتي المنثورة سهواً والمنسية بين الجبال، قليلٌ من أهلها كان لديه بضعة كتب. وكانت للكلمة المطبوعة قداسة ألهمتني عشق رائحة الحبر والورق، وربما كان هذا العشق سبباً في أني لا أستمتع بالقراءة الإلكترونية حتى الآن. “الإنسان كائن قارئ”، وربما كان هذا ما قصده أرسطو في تعريفه للإنسان باعتباره “حيواناً ناطقاً”، أي إنه كائن يستخدم اللغة ويفكر، وهذا الأمر لا يكون إلا من خلال الكتاب، وحتى عندما نتحدث عن مجاز الكتاب، كأن نقول: المرأة كتاب، أو الطبيعة كتاب، أو الحب كتاب، أو الموت كتاب، فإننا هنا نتحدث عن الكتاب بوصفه أداة المعرفة؛ لغةً، قراءةً وكتابةً، وتفكيراً.
يحيى زيدو: “الإنسان كائن قارئ”، وربما هذا ما قصده أرسطو في تعريفه الإنسان باعتباره “حيواناً ناطقاً”؛ أي إنه كائن يستخدم اللغة ويفكر..
الكاتب الأرجنتيني الشهير “خورخي بورخيس” تخيل الجنة باعتبارها مكاناً يشبه المكتبة. أما أنا فإنني أرى من الجهة المقابلة أن المكتبة هي الجنة، وكل كتاب فيها كائن من كائنات الجنة له درجة يستقر فيها، أو رفّ يستقر عليه”.
للكتاب قُدْسِيَّتُه
يرى “زيدو” أن “الكتاب مادة يتغذى عليها العقل، وفضاء تتسع به الروح، وهذا ما يوقظ الإحساس بالحرية، وربما بالقوة والسطوة، قوة وسطوة المعرفة. فالكتاب يضيء ويكشف ويحاكم ويدين ويحكم، ويدفع إلى إعادة النظر في اليقينيات والمطلقات التي تشكل ما يراه البعض قناعات ومبادئ نقع في أسرها ونرفض مغادرة سجنها في الغالب”. يقول: “في مكتبتي اليوم ما يزيد على تسعة آلاف كتاب، جمعتها على مدى عقود، وهي أثمن ما أملك. وكلما تأملتها أتذكر الأيام التي لم أكن فيها قادراً على شراء كتاب، فكنت أقصد معارض الكتب لأقرأ ما أستطيع وقوفاً، أو أستعير كتباً من أصدقاء، وأعيدها بعد الانتهاء من قراءتها، وهنا لا بد من التعبير عن الخيبة من البعض الذي استعار كتباً ولم يقم بإعادتها. الألم ليس بسبب قيمتها المادية بل بسبب نفادها من المكتبات، أو ارتباطها بذكرى اكتسب الكتاب قيمته منها. وربما بسبب إحساسي بألم الأيام التي لم أكن قادراً فيها على اقتناء الكتاب، ما زلت أسعد بإعارة الكتب لمن يقرأ، مع علمي بأن بعضها قد لا يعاد”.
لا طقوس محددة للقراءة عند “زيدو”، فقد تجاوز، كما أخبرنا، مبدأ القراءة من أجل المعرفة إلى القراءة من أجل المتعة؛ متعة القراءة ولا شيء آخر. وحيث يتوفر الوقت يقرأ ويستمتع، وقلما مر يوم في السنوات الثلاثين الأخيرة من عمره لم يقرأ فيه. يوضح: “على العموم أقرأ أكثر مما أكتب، وأفضل القراءة في المنزل، أو في مكان مغلق أكثر من القراءة في الأماكن العامة أو المفتوحة. وفي الغالب فإن قراءة الكتاب تكون في الليل أكثر من النهار الذي يمكن أن تقرأ فيه مجلة أو جريدة. فللكتاب حميميته وخصوصيته، بل قدسيته؛ التي تفرض ألا تنشغل عنه بضوضاء النهار”.
“ضد المكتبة”
من جهته الصحفي والروائي السوري “خليل صويلح” ينادي بالإطاحة بهندسة رفوف المكتبة رأساً على عقب في كتابه “ضد المكتبة” (دار نينوى)، متسائلاً: “هل كل ما اقتنيناه من كتب ينبغي الحفاظ عليه، لاسيما في ظل الثورة التقنية التي أتاحت امتلاك كمبيوترات محمولة على هيئة مكتبة متنقلة تحتشد بالأفكار؟” ليوضح في حديثه: “ما أعنيه هو إلغاء الشكل الفلكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي، لا يختلف كصورة رمزية عن فاترينة الكريستال، وتالياً، ضرورة إطاحة عناوين تسلَّلت عنوةً إلى الواجهة بقوة دفع إيديولوجية طوراً، وسطوة أسماء مرموقة تارةً، أكثر منها حاجة روحية ومعرفية”، وهو في هذا يتماهى مع ما قاله “خورخي لويس بورخيس” الذي كان يتخيل دوماً الجنة على شكل مكتبة، لكن من موقع مناقض إذ يقول: “أظن أنه من دون تنظيف هذه المكتبة من الأعشاب الضارة، ستكون نوعاً من الجحيم الدنيوي، فاحتياجنا فقط هو إلى الكتب التي تقوم بتغيير مصائرنا وفقاً لما يقوله جيمس بالدوين، وعدم قراءة إلا المؤلفات التي تعضُّنا وتوخزنا، فعلى الكتاب كما يرى كافكا أن يكون كالفأس التي تهشِّم البحر المُتجمِّد فينا، لذا من الضروري تلخيص المكتبة بما يوازيه من تكثيف المتنبي للشعر بقوله على قلقٍ كأن الريح تحتي”.
(رودينة) نصور: المكتبة معبدي ومعتكفي ومصدر للمعرفة ودليل الثقافات المختلفة ومكان لمقابلة المشاهير، أنا حكاية الكتب والكتب حكايتي
تحتاج “مذبحة”
ويعتقد صويلح أنه رغم هول كلمة “مذبحة”، إلا أن المكتبة تحتاجها بين فترة وأخرى “كنوع من الاصطفاء الطبيعي والضروري للكتب التي تتكئ على عكاز الأكاذيب، وفقر الدم وتصلّب الشرايين، وضياع الموهبة”، ويضيف: “ميراث الكاتب يتمثل في سلسلة قراءات في المقام الأول، باستعادة لذة طحين الآخرين قبل عجنه بأصابع أخرى، ووشم مختلف، في عملية لا نهائية وكأن رفوف المكتبة صخرة سيزيف موازية”، ليعود فيؤكد أن مناداته المُضادة للمكتبة هي دعوة إلى القراءة، لكن من موقع مُغاير وغير مألوف. فهو يعتبر أن “كتباً لا تزني باللغة، لا تتوغل في الأحراش الكثيفة المعتمة، لا تحدث طوفاناً، لا يُعوَّل عليها”.
من هنا يحتفي “صويلح” بأصحاب الرؤى الفريدة والخارجة عن المألوف من مثل امبرتو إيكو الذي لطالما خلخل اليقينيات بسرديات مضادة، وبرنهارد شلينك الذي أثبت أن صفحة الكتاب جسد مفتوح على اللذة أيضاً، وميلان كونديرا المُنادي بأن يكتب الروائيون تاريخاً مُضاداً لا يصطدم بحائط النسيان، مروراً بخورخي بورخيس كنموذج آخر لمتاهة الكتابة، والروائي الصربي زوران جيفكوفيتش المهووس بالمكتبات، والمُمانع الأرجنتيني الفذ أرنستو ساباتو، وإرفين د. يالوم الذي أدخل الفلاسفة قفص التخييل الروائي، وأيضاً الفرنسي بيار بيارد اللاهي عند تخوم الكتابة لزعزعة قدسيتها، وابن عربي ترجمان الأشواق، ودوغلاس ج ديفيس مؤرِّخ الموت، وليس انتهاءً بالموسوعي جورج طرابيشي وإشراقاته المتفردة التي تربو على مئتي مؤلَّف، وغيرهم الكثير. يختم صاحب “جنة البرابرة”: “أن تكون ضد المكتبة، فأنت تحتاج مكتبة أخرى، بخطط ومتاهات لا نهائية!”.
عناوينٌ لجسدي المتشظِّي
الإعلامية “ردينة نصور”، التي تمتلك في طرطوس مكتبة يُشبِّهها كثيرون بصالون “مي زيادة” لغناها بالكتب والمراجع النادرة، تصف كنزها ذاك بأنه “محصول من الحب لا يموت”، وبلغة شفيفة تحكي لنا عن علاقتها بالكتب بالقول: “أنا امرأة آمنت بالذي علَّم بالقلم. الورقة بيتي والقلم عنواني. حكايةٌ مختصرة لجمال الكون، أستمد قوتي من الحروف، بكُتُبٍ هي الأيادي الحنون التي مسحت لي دموع ألمي، هنا جعلت الجهل يتألم ويئنّ، المكتبة معبدي ومعتكفي، صلاتي وعبادتي.. مصدر للمعرفة ودليل الثقافات المختلفة، ومكان لمقابلة المشاهير. أنا حكاية الكتب والكتب حكايتي، يحدقون بي بحزنٍ مفضوح، وأسمع أنينهم بوجه صامت متأمل، هم عناوينٌ لجسدي المتشظي الموشوم بتاء الأنوثة النبيلة، عشت معهم وبينهم كعائلة منحتني كل الحب والدفء، أشعر بالنار باردةً وبالثلج حاراً. أعيش الحب والرحمة مع آبائنا منذ عشرات القرون، أخرج من هذا العصر وعقليته وثيابه ومفرداته، لأحفظ ذاكرتي بلغةٍ تضحك وتبكي وتعصف بعقلي”.
بوابة نجاة
ترى “نصور” أن شخصيتها باتت تنغمر في أحشاء الكتب، وأنها تسير معها إلى حتفها بوجعٍ سيزيفي لا مرئي، وكتّاب تُسدِّد فواتير حبِّهم. تقول: “هم أصحابي وأهل شأني بحكايات إيسوب، وأشباح ديريدا، وغريب كامو ووحدته وهمومه. مع مواعظ وأشعار عقدي الفريد، أغني مع الأصفهاني، وبستان فسيح الأرجاء من مروج الذهب ومعادن الجوهر، هي رسائل خاصة لكتب تلتصق بي وتمشي بقربي وتصرخ في وجهي. من خواطر الناس من سام إلى حام، وجمهرة اللغة والبردة العصماء، وأفصح العرب لساناً وأكملهم بياناً، وأرجحهم في إيضاح القول ميزاناً، حروفهم مكسوة بدثار أرواحهم، وأغانيهم خالدة تستوطن ذاكرتي، أطير معهم فوق جسور العالم، أصلحت بحبهم ما أفسده العصر، (لا خداع، لا مكر)، هم بوابتي للنجاة، ومعهم أبقى على قيد حلم، على قيد سلام، على قيد حب.. لا وقت عندي للكره، فقلبي مشغول بالحب.
جميلة أخلاقهم، مختلفة آراؤهم وأفكارهم، وكل واحد منهم يقول للآخر: لا تملّ، فأنا أتَّكئ عليك. وكل يوم قبل أن أودعهم يخبرونني بأن الحياة رواية. حلم بها فاوست وحملها سيزيف وعاشها دانتي. في النهاية لا مخرج آمن إلا بالمعرفة”.
في الختام، ليست المكتبة بعدد الكتب التي تحتويها، ولا بنوعيتها، وإنما بحجم تأثير الأفكار التي تتضمنها على مالكها، وكيف استطاعت تغيير حياته بما زوَّدته من تجارب جديدة لم يعشها واقعياً، لكنه خَبِرَها مع أصحابها، لتبقى مقولة “تشيخوف” بمنزلة بوصلة لكل عشّاق القراءة: “إننا نملك الكتب، لكنها لا تغني عن الحوار. إن الكتب هي النوتة الموسيقية، أما الحوار فهو الغناء”.