الفنان سهيل بدّور.. الراقصُ على موسيقا الألوان!
تشرين- حوار: جواد ديوب:
يشتغل منحوتاته كأنه ينحت الزمانَ لا الأشكال، كأنه يشكّل الكينونة لا الكائنَ، فراغياتُ منحوتاتِه رقصٌ وطيرانٌ يمنح الظلالَ أشكالها، يجعلُ من النجمة حليةً لامرأةٍ أثيرة في خيالاته، يشاكسُ بعفوية طفل، ويتأمل بعينين من فرحٍ وحزنٍ وجوهَ البشر وأجسادهم كأنهم كائناته المقدّسة التي ينحاز لها دائماً. غادرَ أرض الجوع والفقر والتسكّع إلى جبال الفنّ الوعرة ليحفر بأسنانه ويديه تجربته الفريدة نحتاً ورسماً وليبقي منارَتَه مضاءةً في عالم الفنّ.
إنه الفنان سهيل بدور مَنْ يقيم “مرتحلاً” بين دمشق ودبي وعواصم عالمية يغبُّ منها جماليات تنعكسُ في مرآة روحه، وتشعُّ في لوحاته.. حاورتُه وكان هذا البوح الوجداني:
*هل إدهاشُك للمتفرّج بعذوبة ألوانك ودفئها ورقْصها المفرح هو فلسفتك الخاصة في الفن؟
من المهم لي أن أُحمِّلَ لوحتي دفئاً إنسانياً، لأن العين البشرية ميّالة إلى الطزاجة والدفء، وقد أدركت من خلال تجربتي النحتية والتصويرية أن الألوان الطاهرة تدخل القلب بلمحة، وهذا ما جعلني أرسم من دون مَزْج، من دون معالجة لونية. أرسمُ غالباً من أنبوب اللون من دون استخدام المزّاجة، أعمل بأصابعي ويديّ وبأي شيء على الإطلاق؛ بغصن شجرة، بفرشاة دهان ضخمة، بقطعة حذاء مهترئة… وهذا ما أعلِّمُه في ورشات الرسم التي أدعى إليها عالمياً وعربياً. حتى في النحت أشتغل على خاماتٍ صعبة ومشاكسة منذ الثمانينيات. أنا مشاغبٌ أبني معماراً نحتياً فيه إحراجات حركيّة لا يجرؤ كثيرٌ من النحاتين على القيام بها. والسبب هو أن النحت في نظري رقصٌ أبديٌّ، فالكتلة المصمتة غير موجودة بالنسبة لي، أشعرُ معها بأنني أختنق أو بأنني أغتالُ أعمالي!
*لو تأملنا في لوحاتك لوجدنا معظم الشخوص هي نساء تُصوِّرُهنّ متلبّساتٍ في حالات شعورية متنوعة… لماذا ترسمُ النساء دائماً ولا وجود للذكور في لوحاتك؟
**ولماذا لا أرسم النساء! أنا حرّ أرسم ما أشتهي، (يضحك).. في الحقيقة رسمت لوحات عديدة فيها عنصر ذكوري أو الاثنان معاً… لكن الأنثى قاموسٌ غنيٌّ بمفردات لا تنفد، محيطٌ شاسعٌ من الجمال لا يمكن لأي رسام أن يحتويه، جمالياتُ المرأة ومشاكساتُها وحالاتها الشعورية والجسدية تشبه تقلبات الحياة نفسها.
* لكنّ تواجدَ الأنثى الكثيف والدائم في أعمالك لا يُفسَّرُ فقط بطغيان حضورها، كما تقول، بل ربما على العكس، كأنكَ تبحث عن شيءٍ تفتقده عميقاً في روحك… عن فردوسٍ مفقود أو حُضنٍ غائب؟
**صحيح بالمطلق. سأعترف بجرأة بأن أهلنا لم يسيئوا تربيتنا لكنهم لم يحسنوها أيضاً بسبب الفقر وكثرة الأولاد. وهذا فعلاً جعلني منقوصَ الحنان. في تجاربي الزوجية لم أوفّق بامرأة تكون امتداداً لروحي الجوّانية رغم إنّي أعدُّ نفسي شخصاً محظوظاً مع النساء. كنتُ محتاجاً إلى امرأة تحضنني جيداً وتعطيني الأمان. منذ سنين بعيدة قالت لي مديرةُ متحفٍ ألمانية حين شاهدتْ أعمالي: “بين كلِّ نسائك هناك امرأةٌ مفقودةٌ”! حين قالتْ ذلك – وكانت أول من قالها لي يوماً- هزّني شعورٌ عاطفي عنيف وكدتُ أبكي فعلاً كأنها ضبطتني متلبساً في أضعف حالاتي الجوّانية.
*وماذا عن الموسيقا/الآلات الموسيقية التي تعزف عليها نساءُ لوحاتك وشخوصُ منحوتاتك؟
**الموسيقا هي المُعادلُ الجماليُّ للأنثى، وجهُها الآخر، أرواحها الهائمة، هي سوناتا انتظاراتها الطويلة المريرة، رقصُها المرح، تأملاتها الحزينة، انعتاقها من قيد المكان والزمان.
*ولماذا ترسم الحيوانات إلى جوار نساء لوحاتك مثل القطة أو السمكة تحديداً… هل هي رموزٌ “جنسية” لذكرٍ منتَظر حسبما يفسّر بعضُ علماء النفس تلك الرموز الفنية؟
بل هي إحالاتٌ إلى الخصب والنماء والفناءِ في الخلود! خذ بعض الأسماك مثلاً لديها من النبل والشجاعة أن تضعَ آلاف البيوض التي تتحول إلى آلافٍ من الأسماك الأخرى، من الحيواتِ الأخرى… ثم بعد أن تضعَ حملها تموتُ في حالة انتحارٍ رمزيٍّ كأنما تركت روحها في أجساد سمكاتها الصغيرات… وهكذا… فأنا أرسمُ ما يحيلُ إلى تلك الخصوبة الكونية، إلى ذاك النُبل الكامن في الطبيعة.
*قلتَ مرة: “مهمّتي أن أبقى قلِقاً وهو شرطٌ من شروط حرّيتي” وإنك “مسكونٌ بخوفٍ شامل”… كيف تستطيع أن تحافظ على حريتك ضمن شرط الخوف هذا؟ وكيف تنقذ نفسك من جنونٍ يكتسح العالم؟
**حضوري على الحياة كفنان، كي أنجو من قبحٍ تراكم في ذاتي بفعل الزمن ومجتمع كرَّسَ البشاعة بأشكال متعددة. منذ أن بدأت أتلمس بذور الوعي كنت قلقاً لا أعرف كيف أنام إلا بعد أن ألعب وأعبث بالأغراض من حولي مثل النابض الذي يختزن قدرة دائمة على التوتر. ربما عززت ذلك بشكل نبيل لأن هناك نوعاً من نُبل ما في داخلي. كبرت وواجهت الخوف من أن أفقد طفولتي، أن أفقد أغنية جميلة أو رقصة جميلة أو نقاشاً حيّاً مع حبيبتي. البشاعة باتت تدميريّة بدءاً من تعامل الناس مع بعضهم والحوارات الشرسة التي يخوضونها، لكنني أستنهض “سُهيلاً” القديم في داخلي لأبقى حيّاً ومتوازناً.