الخيال الذي جعل الكنوز مخبوءة في مغارة، هو خيال عبقري، لأن الكنوز تتسم بالندرة وليست مبذولةً أو متاحة تحت الأبصار وبين الأيدي من دون أستار، وكلُّ كنزٍ ليُكشَف عنه، يحتاج إلى تخطّي عتبات وفتح أقفال وحزمة أضواء، شأنه شأن السرّ المكنون، ولطالما تتبعنا الكنوز في مغاراتها: الروايات والأفكار الفلسفية والقصائد والفنون المتنوعة، وتركنا المعادن الثمينة لعمال المناجم والأثرياء والصاغة، كأن لكل إنسان كنزَه وطريقَه إلى “المغارة” يستبصر منعرجاته ويحثُّ فيه خطاه! لكن هل يواصل الزمن إيقاعه الثابت ولا يبدل منعرجاته هو الآخر؟ أين جماهيرية المسرح والسينما اليوم؟ أين الطقوس الجماعية والاجتماعية التي كانت ترافق تلك الاحتفاليات المتسمة بالفرجة، قبل أن نسأل عن بقاء الرواية والديوان الشعري على وسادة القارئ الذي يخلو إلى نفسه ويقرأ بعيداً عن ضجيج العالم وأهله، بحيث عصفت السرعة بكل تفاصيل عيشنا، وربما بات خيالاً غير محمود في هذا الزمن، أن نسأل قارئاً هل أنهى رواية “الأبله” لديستويفسكي أو “مفترق المطر” ليوسف المحمود” أو “الصبار” لسحر خليفة، وهنا على موجة من موجات التداعيات تفاجئني مغارة كنوز لم تكن يوماً ببالي، على بابها المغلق بصخرة، لوحةٌ، على يسارها امرأة بملابس ضافية تحضن أغماراً من الورد الشامي الأحمر وعلى يمينها وجوه لا تُحصى من الأطفال والأمهات والأجداد وبيارات البرتقال وكل أنثى لبست ثوباً، تطريزُه بغرزة متصالبة واحدة لكنه أبهى من الآخر، وبدا اللون الأبيض الغائم سحاباً يمنح “المسجد الأقصى” مهابة وقداسة تكاد تستحضر نداء المآذن ورنين أجراس “بيت لحم”! إنها ليست مجرد خطوط أو ألوان زيتية على قماش، وليست إطاراً خلفَه مسمار، ينقله من جدار إلى جدار، بل ذاكرة محتشدة بوقائع التاريخ المتواري وراء الحركة كلها: وطنٌ مسلوب بقوة استعمارية صعدت بعد الحرب العالمية الثانية، وُلدَت فيه أجيالٌ بعد أجيال مازالت تتخطى ذاكرةً مريرة من التهجير وتقاوم “التذويب” والإفناء بحفظ تراثها العظيم، حين ترسم “الراهن” ليكون مستقبلاً مستديماً!
في “المغارة” التي اكتشفتها بشكل ذاتي لن ينتهي التجوال بين ومع الكنوز! سيكون الفن التشكيلي هو العالمَ الروائيّ المعاصر الذي تتيح فيه اللوحة قراءة عميقة للأحداث الزمنية، واحتراماً ومحبة لقراء ونقاد الروايات يتوجب القول: اللوحة العظيمة هي رديفٌ للرواية العظيمة وكم لدينا من رسامين كبار وأساتذة في هذا الفن الذي أصبح شديد الاقتراب من المتذوق بسبب عديد معارضه وقرب فنّانيه من الناس، رغم أن “نخبوِّيتَه تماثل نخبويةّ المطالعة في بلادنا!
نهلة سوسو
123 المشاركات