عن أزرق الحكايا.. التدريجاتُ اللازورديّة في الميثولوجيا والتشكيل

تشرين- علي الرّاعي:
بتدرجاته التي تتعدد، تشف، أو تعمق، تفتح قليلاً، أو تزدادُ كثافةً، يتوزّع الأزرق؛ ليلون الحكاية بين كحليٍّ وسماوي، أو يميلُ لأن يصبح لازوردياً، وربما قد يذهبُ صوب النيلي الصرف..
الأزرق الذي سيلمع هادئاً، نيليّاً يُعطي قداسة ما لمئزر البتول مريم، أو قد يذهبُ في بياضٍ كلسي لبيتٍ طيني في إحدى قرى الساحل السوري، وربما في سهول حمص أو حماة، وقد خطتّه يدُ ريفيّة اعتادت أن ترسمه مع تجديد (بياض) الكلس، أو الطين على جدران البيت الداخلية، آخذةً من ثوب المريمية هالةً سحرية من القداسة، أو ربما تضعه على مدخل البيت، فوق الباب، أو في أعلى نقطةٍ منه كـ (خرزةٍ زرقاء) تردُّ من خلالها نظرات عيون الحسد والحسّاد، أو تشوش على جوع العين و(فراغها)..
أزرق لسورية
أزرق سورية، أو الأزرق السوري، اللون الذي يُنسبُ لسورية الزرقاء والذي ظهر منذ أبجديتها الأولى على تلال (أوغاريت) رأس شمرا.. هذا الأزرق الذي سيُصبح (بصمة سورية) أو توقيعاً للكثير من المبدعين السوريين، إن لم يلمع في نصوصهم ومدوناتهم الكتابية والسردية؛ فهو سيظهر بأزرقٍ ما في اللوحة التشكيلية، لإكمال إعطاء المُنتج الإبداعي (هويةً محلية)، وهنا يأتي هذا الأزرق مُكمّلاً (الشخصية الإبداعية) السورية مع مفردات وعناصر أخرى من أرضٍ عتيقة تنوعت في إعطاء ملامحها لأبنائها.
وهنا لابد للمتابع للمشهد التشكيلي في سورية، من أن تلفت انتباهه جملة من المفردات الجمالية، على الأغلب كانت تشدُّ الفنانين صوبها، فراحوا ينوّعون باستخدامها بكثيرٍ من الفنية العالية، الأمر الذي منح هذه المفردات الجمالية الكثير من الإيحاءات، والتي جعلتها تخرج عن سياقها التي استكانت الوجود فيه في اعتيادها الطويل، هنا حاول المبدع أن يُزيح الكثير من هذه المفردات من سياقها، ووضعها في سياقاتٍ جديدة، وكذلك في صياغاتٍ جديدة، وفي الفنون الجميلة جعلها في «تكاوين» جديدة، وصولاً إلى حالةٍ إبداعية قادمة من مفرداتٍ محسوسة، ومألوفة، لكن ولكثرة ألفتها صرنا نمرُّ بجوارها من دون أن ننتبه لها، وكلُّ ما فعله الفنان التشكيلي هنا في تعامله الجديد معها؛ هو وضعها في دائرة ضوءٍ إبداعية جديدة.
الشغف بالأزرق
من هذه المفردات التي ستتكرر في العديد من الأعمال التشكيلية: الكرسي، الجرار، الحذاء، الشجرة، القوارير، وغير ذلك الكثير من المفردات التي شكلت للعديد من الفنانين السوريين «حوامل» إبداعية، أفضت لمشاهد بصرية شكلت بدورها فرادة في المشهد التشكيلي السوري، بل أعطت للعمل الفني ملامح هوية سورية، ولاسيما بمدّ وجوه ذلك العمل باتجاه سورية القديمة بإضافة ملامح تراثية وتاريخية سورية، سواء من أوابد، ومن ملاحم، ومن ألوان قديمة.. ومن هذه الملامح، التي شكّلت معالم لهوية سورية، هذا الشغف بـ«الأزرق» حتى إن هذا اللون أصبغ على معظم التجربة، وأحياناً كاملها لبعض الفنانين، ولعلّ أشهر من تولع بالأزرق كان كلاً من الفنانين: نزار صابور، ومحمد أسعد «سموقان» ورازي عبد الله، وفيما بعد الفنانة غادة زغبور..
هذا «الأزرق» في درجته «النيلي»، والذي كان السوري الفينيقي قد خصصه للملوك والآلهة، وهذا ما أخذه العالم عن سورية، فكان أن جعل الرومان ثوب العذراء مريم نيلياً مقدساً بناءً على المفهوم السوري القديم لمفردات القداسة.. «النيلي» الذي كان ذات حين يُزيّن بيوتنا الطينية من داخلها، وكان ثمة إصرار على حضور هذا النيلي كخطٍّ طويل على ارتفاع المتر ونصف المتر، والذي يأتي كمعادلٍ آخر لوجوه تلك القداسة.. هذا اللون الذي سنرى ملامحه في الكثير من تفاصيل الأعمال التشكيلية، سواء بكثافة لدرجة العلامة الفارقة كما ذكرنا عند الفنانين السابقين، أو أنه شكّل توقاً في بعض الأعمال، وإذا أردنا أن نعدد هنا، فسنحصل على عشرات الأسماء التي كان لها شغفها بالأزرق.

هذا «الأزرق» في رأي الكثير من الفنانين، لم يوقع اللوحة في التماثل، وإنما ثمة من وجد أنه «ليس من أزرق يشبه الآخر، لا من حيث الصفاء، ولا الشدّة، ولا النغمة، وكأنه أصبح – الأزرق- رنة النحاس في الروح، ذلك أنه لكلِّ روح رنة ما، وهذا الأزرق هو رنة الروح المختلفة والدائمة..».. هذا «الأزرق» الذي يشدّنا كعاطفة، لكثرة الانفعالات التي يُقدّمها هذا اللون الذي يُوحي بالمسؤولية في بعض درجاته، وبالتراخي في بعض درجاته الأخرى، وتارةً يوحي بالعمق والقدامة، وطوراً بالتعب، هذا الأزرق الذي هو « لون سورية»حسب وصف صحيفة فرنسية ذات حين.. ففي أوغاريت المدينة السورية القديمة ثمة آلاف القطع والمواد الزرقاء، وهي من القطع المشغولة من مواد طبيعية أصلية، وهي نادرة، وقطع مشغولة من مواد أنتجها الإنسان وهي تُعد بالآلاف، هذا اللون – كما يرى الكثيرون- هو لون أولي وأساسي في العوالم القديمة للشرقين الأدنى والأوسط..

ويأتي لون اللازورد كدرجة أخرى من الأزرق، والذي كثيراً ما شدّ الفنانين إليه بإيحاءاته المتعددة، وهو ليس لون البحر – جار الكثير من الفنانين – فحسب، بل هو لون الأسرار، وربما الأخير، قد يكون هذا الـ«شيء ما» الذي جذب إليه أكثر من فناني التشكيل، وقد يكون كل ما سبق معاً.. يذكر الفنان التشكيلي سهيل معتوق عن رمزية السماء في إحدى لوحاته الفنية؛ أنها تمثل العنصر الرحيم، إذ تولد الإحساس بالأمان عند ساكن البيت الشعبي، فالسماء هي «بيت الله»، تضفي بقدسيتها قيمة رمزية، لتصبح من خصوصية الإنسان ساكن البيت، محتضنةً القمر الهلالي كرمز ومعتقد ديني عربي إسلامي، وبسقوطها من خلال الفناء، تخلق علاقة حميمية روحانية معه.
الرابسودية الزرقاء
ثمة فنان آخر كان له شغفه بـ«الأزرق» وإن كان هنا قد اتخذ منحى صوفياً بحتاً، وهو الفنان رازي عبد الله الذي اشتغل على «الرابسودية الزرقاء» والتي حملت عنواناً لأحد معارضه، والرابسودية الزرقاء كما يُعرفها: «هي مصطلح بوهيمي، يتحدّث عن عبادة الله عن طريق فن اللون الأزرق (فاللون الأزرق يعبّر عن الصفاء والنقاء في كلِّ شيء)، وأكثر ما نُعبّر فيه عن الأمومة المطلقة، أو ما يُسمى في السماء المن والسلوى.».. والرابسودية اتجاه موسيقي غربي، «نشأ في عشرينيات القرن الماضي، إذ يتم عزف المقطوعات باجتماع ثلاثة أنواعٍ موسيقية مختلفة، وفي زمن لا يتجاوز الست دقائق، وتهدف إلى خلق حالة منتظمة رغم الفوضى الحاصلة نتيجة الاختلاف… والرابسودية تُمثّل أيضاً اتجاهاً فكرياً يسمو إلى العلو، من خلال رؤية الموجودات والمواقف بطريقة أكثر عمقاً وإدراكاً لاستخلاص الجوانب الايجابية من أي حدث.»
وقد تمّ التعبير عن الرابسودية من خلال الكلمة والموسيقا، فأرد الفنان هنا أن يصوغها بشكلٍ مختلف من خلال اللون.. واللون الأزرق تحديداً بدلالته الرمزية لتشكل مجمل اللوحات (ملحمة لونية)، وخلالها مزج رازي بين اللونين الأزرق والأبيض في لوحاته.. فاللون الأبيض هو اللوحة التي يضع عليها اللون الأزرق، وفي رأيه اللون الأبيض يرمز للحيادية وإضاءة نورانية، وهو يتكامل مع الصفاء والنقاء الموجود في اللون الأزرق.
وإذا ما تابعنا في الألوان، فماذا سنقول عن الأخضر مثلاً؟! ومن أزرق الشاعر صقر عليشي نقطف بعضاً من هذه الثمار الشعرية الزرقاء..
الأزرق:

منذ زمانٍ يسحرني هذا اللون الشفافْ
لو كنتُ كتاباً
لم أخترْ ـ بالتأكيدِ ـ سواهُ غلافْ
لو أني نافذةٌ لبقيتُ عليه مفتّحةً
ورميتُ على الطّرقاتِ الأبوابْ
لو أني قلبٌ
كان الأزرقُ لونَ دمائي المنسابْ
لو أني مطرٌ
ما كان يسيلُ بغير ترقرقه الميزابْ
هو في الأصل سماويٌّ
وهو لدى أمواج البحر مضافْ
فصّلتُ ستائرَ أحلامي منه
وأطلتُ…
ولم أتحاشَ الإسرافْ..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
(وثيقة وطن) تكرم الفائزين بجوائز مسابقة "هذه حكايتي" لعام 2024..  د. شعبان: هدفنا الوصول لحكايا الناس وأرشفة القصص بذاكرة تحمل وطناً بأكمله معلا يتفقد أعمال تنفيذ ملعب البانوراما في درعا ويقترح تأجيل الافتتاح بسبب تأثر المواد اللاصقة بالأمطار الوزير الخطيب: القانون رقم 30 يهدف إلى حماية بنية الاتصالات من التعديات الوزير صباغ: إمعان الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يعبر عن سياسات إرهابية متجذرة لديه الجلالي يبحث مع أعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية صعوبات العمل ووضع حد لأي تجاوزات قد تحدث طلاب المعهد الصناعي الأول بدمشق يركّبون منظومة الطاقة الشمسية لمديرية التعليم المهني والتقني أجواء الحسكة.. عجاج فأمطار الأضرار طفيفة والمؤسسات الصحية بجهوزية تامة لمعالجة تداعيات العجاج انطلاق فعاليات أيام الثقافة السورية في حلب بمعرض للكتاب يضم ألف عنوان أين وصلت عمليات الترميم والتأهيل لمتحف معرة النعمان وماذا عن متحف حماة وقلعتها؟ بسبب العاصفة.. أضرار مختلفة في الشبكة الكهربائية باللاذقية